هل تحسد هيكل؟ لابد أن تحسده، فالرجل مازال يتمتع برغبة لا حدود لها في عدم الخروج من الساحة.. يعلق، ينقد، يقدم روشتات كلها من خبراته بدولة مابعد التحرر. هذا هو موديله المقدس. دولة مركزية قوية تدير المجتمع وفق خطة تنمية وإرادة سياسية تسمح بتعدد «تحت السيطرة». تحليلاته قديمة، لكنها تلقي هوي عند مريدين، وعشاق، يحفظون له موقعه بين الصحافة والسياسة. ورغم أنه لم يعد مطلعا كما كان علي الأسرار، وافتقد العين والأذن التي تتيح له التجول في الكواليس والاستماع إلي حوارات لا يسمعها غيره، فإن غواية الأسرار مازالت تمسك به وتحفز طاقته الدرامية. آخرها سر القهوة التي أعدها السادات بنفسه لعبد الناصر في فندق النيل هيلتون، قبل موته، ولمَّح إلي أن هناك من قال إن بالقهوة كان السم البطيء الذي قتل عبد الناصر. سر عمره 40 سنة، لماذا احتفظ به، وقاله مع تحفظ «ليست هناك أدلة كافية»؟.. هل قال هيكل السر ليكشف حقيقة، أم ليثير جدلا حول قتل عبد الناصر، ومشاركة خليفته السادات في القتل؟، لماذا الآن ومصر مشغولة بخلافة الجنرال الأخير، أو كما يتمني قطاع كبير من المصريين أن يكون الأخير...؟ أم ليلبي غريزة داخلية بتفجير المفاجآت وكشف الأسرار؟ أتعاطف كثيراً مع التفسير الأخير، إنساني أكثر، ويداعب ضعفاً تجاه ما نحب، ويحرك متعتنا. هذه منطقة لا يهتم بها الكثيرون عند «الأستاذ» الذي يصعب اختصاره، ويُتعب محبيه وخصومه معا، في الثبات علي صورة الملاك أو الشيطان. هيكل محترف وموهوب في الدراما، أكثر ربما من السياسة، مهاراته لا يمكن إنكارها في تحويل الرسائل الثقيلة، إلي نوع من الدراما، تربط الكتابة بالشخص لا بالحدث. فالحدث عندما يكتبه هيكل يرتبط به، ليس للقيمة الكبري في الأفكار، أو التحليلات، ولكن غالباً لأنه يضع كل إمكانياته الشخصية في الكتابة، بداية من موقعه القريب من الحدث، إلي قدرته علي معايشة ما لا يتاح لغيره معايشته. هذه المعايشة سر الاهتمام الكبير بكتابات هيكل عن الأسرار، أكثر ربما من تحليلاته للأوضاع الراهنة. تحليلاته تنتمي إلي حساسية قديمة، تبدو أقرب إلي الرثاء منه إلي رؤية جديدة تعتمد علي خريطة القوي الجديدة، أو البحث عن طريق آخر غير استنهاض القوة القديمة للدولة الرائدة...البحث عن هذه القوي مثل إحياء قوة حبيبات البن، بحث عن وهم أو خيال مفرط في الحنين. الحنين أو «النوستالجيا» هو سر استمرار شعبية هيكل وظهوره علي الشاشة أو علي صدر صحف «معارضة»، هو علامة الحنين الصريحة لزمن «التحرر» الجميل، وعلامة الحل الجاهز : العودة إلي دولة الستينيات. هيكل يحب صورته الجديدة المنفلتة والمستفزة لحراس نظام مبارك.لكنه لا يخرج عن خطاب موجود بقوة في تركيبة النظام ولا عن أشواق المعارضة باتجاه الدولة. هيكل هو أيقونة معارضة تنتمي إلي الدولة أكثر من موظفين في الدولة نفسها. لم يكن هيكل أبداً في صورة معارض النظام.. ولم ينتظم في كتابة خارج صحف الدولة... حتي بعد فشل كل مشاريع عودته «أولاً في الأخبار ثم في المصور». هيكل لم يفكر في أن يكون كاتباً منتمياً لغير الدولة، لكنه بعد اعتزال الكتابة قرر أن يترك نفسه قليلاً لمزاج النقد الحريف للدولة في عهد مبارك.. انجرف «الأستاذ» لغواية الصحافة المشاغبة التي صنعها تلامذة لم يمروا بمدرسته.. وهو «المتحفظ» يخرج بين الحين والآخر كأنه في فسحة مع «أبناء» ضالين عن الدولة. يضع نفسه في قلب الاستقطاب العنيف المشتعل الآن بين الأغنياء والفقراء.. بين الثوريين والمحافظين.. بين الحكومة والشعب، ويطل بحسرة علي بخار الدولة التي شارك في صناعتها، وكانت طوال الوقت نموذجه الفاتن. ورغم أنه لم يكن «ناصرياً» في السياسة فإن موديل الدولة الناصرية هو مصدر الإلهام الكبير لمن كان مستشار الرئيس عبدالناصر. البعض يعتبره «شريكاً» في السلطة، لكنها مبالغة لواقع يمكن أن نري فيه خصوصية حكم زعيم يعتمد علي الكاريزما السياسية ويقود الشعب بشرعية الثورة ويخطب في الشرفات، ويضع البلد كله علي خط النار.. الزعيم الملهم يحتاج دائماً إلي: صانع الأفكار، ومهندس العمليات.. يحتاج إلي صحفي موهوب في صناعة صورة للنظام. هو صانع الصور السياسية. هذه هي مهارته الأولي والمهمة.