يوم عن يوم تتأكد مقولتي التي أرددها: «الكويت هي الحبّة ومصر هي القبة، فمن كان ضعيف نظر، أو علي سفر، فليحسب قيمة فساد مصر ويقسم الناتج علي ستة، ليحصل علي فساد الكويت». ومصر اليوم تلطم بسبب زهرة الخشخاش المسروقة، ووزير الثقافة اعتكف في غار بيته، والحرامي سيصعب عليه الوزير وسيعيد اللوحة، فالأمور لا تصل إلي حد الاعتكاف والعياذ بالله. وعليّ الطلاق، درست وتخرجت في مصر، واستغرق الأمر مني ست سنوات سمان، ثم زرت مصر بعد ذلك نحو عشرين مرة، ولم أسمع عن متحف محمود خليل، ولم يسمع به أحد ممن أعرف من رواد مصر. متحف مين بس وخشخاش مين الله يحفظك. ثم إنني لن أضرب الودع وأقرأ فنجاني المقلوب فأكتشف أن هناك متحفاً يضم أغلي وأثمن اللوحات العالمية اسمه متحف محمود خليل، بينما في لبنان، قبل أيام، كنت في زيارة إلي متحف جبران خليل جبران ومنزله، في مسقط رأسه، في «بشرّي»، بصحبة الكاتبين العظيمين، عمنا الأستاذ أحمد الديين، «قلم الدستور»، أول أو ثاني كويتي احترف الصحافة في تاريخ الكويت، أطال الله عمره، والأستاذ صالح الشايجي، الذي تسلّم اللغة العربية عهدة من امرئ القيس، فلا ينام إلا بعد أن يضع حروف الجر تحت مخدته، وبعد أن يطمئن علي أحوال حروف العلة، ويتأكد من تعقيم أدوات الشرط... وأكثر ما لفتني، بعيداً عن لوحات جبران وكتبه، هو نظام الإضاءة المتطور جدا، الذي تبرعت به اليابان البوذية، عليها من الله ما تستحق... وفي الكويت، تلقيت دعوة لمعرض للوحات التشكيلية، وحضر المسئول راعي الحفل، وأخذت الفنانة المتحمسة تشرح لنا اللوحات بالتفصيل، علي اعتبار أن المسئول يرتدي البشت ويفهم، وأنا كاتب مقطّع الثقافة وذيلها، وأشارت بإصبعها: «هذا الخط الفاصل بين الأزمان، وهذا تعرّج الفرح والحزن وكيميائهما، وهنا تتداخل المشاعر والزمن»، وأنا والمسئول وغالبية الحضور نردد: «ما شاء الله، أوف، آها»، ونمطّ شفاهنا إعجاباً متصنعاً، وأهمس في أذن الواقف إلي جواري: «شايف الفرح عندما يتعرّج؟ روعة، ووالله لم أفهم خطاً واحداً من الخطوط المتداخلة أمامي، كانت زحمة وهيصة خطوط، وأقطع عيني لو فهم صاحبنا المسئول نقطة واحدة مش خط. وبعد أن أنهينا «اللفة»، تلفّت في وجوه الزوار فوجدتهم في غاية الانبهار والتركيز علي اللوحات، فانتابني شعور بالجهل، وأحسست بأنني الوحيد «في هذه الليلة» الذي أتي للتو من الأحراش، في حين أن جميع الحضور من جيل نهضة أوروبا، وخنقتني العبرة، فأدرت رأسي، فشاهدت رجلاً وامرأتين عند لوحة «المشاعر والأزمان والفرح المتعرج»، يتفحصونها باهتمام، والرجل يضع أصابع كفّيه علي شكل مثلث زاويته إلي الأعلي، ويداعب شنبه بإبهاميه، ويتمعن بطريقة تجزم بأنه حفيد «بيكاسو» لا محالة، فدفعني شيطاني إليهما، الرجل والمرأتين، وبعد التحية، شرحت لهما اللوحة بكل ثقة وكذب: «هذا خط نبوغ الأرض، وهنا اصطدام القسوة وانفجارها قبل أن تتفتت، والصلاة علي النبي»، فهزوا رءوسهم انبهاراً متصنعاً، فالذي يقف أمامهم كاتب مثقف، وفشخ الأخ شدقيه: «واااو... انفجار عنيف»، فتمتمت في صدري «واو مين يا أهبل يا أبو انفجار»، حينها أدركت أننا كلنا متعرّجون، وكلنا من الأحراش، وكلنا في الهوي سوا، وما يحدث ما هو إلا تظاهر وتصنع وادعاء ثقافة وأفلام أبيض وأسود، إلا من رحم ربي... فيا عمّنا الخط المتعرّج نحن عرب بالصلاة علي النبي، قل لنا: حزام ناسف، خناقة، تهريب أموال، لعق أحذية الكبار، قصائد بين يدي السلاطين، أي شيء من المصطلحات التي نعرفها كي نكون معك علي الخط... واترك عنك التعرّج فلن ينفعك. ويا عمنا معالي وزير الثقافة المصري، فاروق حسني، كثّر الله ألف خيرك، يكفي أنك تسلّمت الآثار والمتاحف من الدولة الفاطمية ولا تزال، ووالله إنني منذ أن استيقظت علي الدنيا وأنا أقرأ «صرّح فاروق حسني»، «افتتح فاروق حسني»، ولا أحد يقدّر قيمة «لوحة الخشخاش» إلا أنت، إذ لم يعتكف غيرك أحد، فخذها نصيحة وقدّم استقالتك فوراً، لكن انتبه، الوالي تغيّر، والعاصمة انتقلت منذ بداية تسلمك المهمة إلي القاهرة، والعملة المصرية الآن هي الجنيه... قدّم استقالتك وارسم لك شوية خطّين متعرجين تسلّي فيهم وقتك، وارسم لوحة أخري بعنوان «عربيّ أنا»... قدّم استقالتك وتعال معي نغني الأغنية التونسية الفولكلورية الرائعة: «خشخاشك مال يا طفلة، خشخاشك مال، خبّل لي عقلي تخبال، يا طفلة، خشخاشك قربع، دوّي بالصوت مربّع...»، غنّ معي وفكّها اعتكاف، وتذكر أنك بين العرب الذين سيلهون عنك وعن الخشخاش، وسيتابعون قضية هند الفاسي، وكاميليا، ووو، وشوف وزراء الصحة، ياما سُرقت كلي بني آدمين ولم يعتكفوا، وشوف وزراء النفط، ياما سُرقت حقول بأكملها ببصلها وثومها وقثائها، ولم يعتكفوا، وشوف وشوف وشوف، الحياة لا تتوقف يا سيدي علي خشخاشة، فكّها اعتكاف وخليها علي ربك، أو علي الحزب، وعليّ النعمة لن يصيبك إلا ما كتب الحزب لك... وأقسم بالله أن مصر عظيمة، مقارنة بالكويت، علي الأقل فيها وزير يخجل ويعتكف من تلقاء نفسه، وقد يقدّم استقالته قبل نشر هذه المقالة.