إحساس غريب أن تصلك رسالة من العالم الآخر، رسالة من صديق راحل، هذا ما واجهته اليوم عندما كنت أتصفح صندوق بريدي علي الفيس بوك. لدي حسابان علي الفيس بوك، منهما واحد لا أستخدمه كثيرا، لي عدة شهور لم أتصفح صندوق بريدي فيه، حتي تجاوزت الرسائل غير المقروءة ثلاثة آلاف رسالة، اليوم قررت أن أفتح الرسائل ربما يكون فيها شيء مهم يمكن تداركه أو لم يفت موعده بعد. كان أغلب الرسائل إعلانات عن أنشطة أو رسائل من مجموعات من تلك التي أشترك فيها، مسحت أغلب الرسائل فهي تخص أنشطة فات موعدها، ومعظمها وصلني علي حسابي الأساسي الذي أتصفحه بانتظام. عندما وصلت إلي الرسائل الواردة في شهر أبريل، استقبلني وجهه بابتسامته البشوشة التي اعتدتها منه دائما، رسالة من الصديق الراحل الأديب والمهندس محمد عبد السلام العمري، الذي توفي فجأة منذ أسابيع قليلة، فتحت الرسالة المؤرخة في 22 أبريل الماضي بسرعة، كان يقول فيها: «حمد الله علي سلامتك، والحمد لله الذي شفاك من رهاب الطائرات.. أدعوك للمشاركة في إلقاء شهادتي الروائية والثقافية التي سألقيها في دار الكتب والوثائق القومية مساء الأربعاء الموافق 28 أبريل الجاري، أعتقد أنه موضوع يهمك». شعور غريب أن تأتيك رسالة من العالم الآخر، خصوصا عندما تكون رسالة من صديق تحبه وتقدره، وتشعر أنه غاب فجأة بلا مقدمات. أقول لصديقي محمد عبد السلام العمري: لو كنت فتحت الرسالة يوم 22 أبريل كنت رديت عليك وقلتلك: «صديقي العزيز: الله يسلمك، بس أنا لسه راجع من السفر حالا، كأنك عارف ميعاد وصول الطيارة، الرسالة وصلت مع وصولي أرض الوطن، بعد ما قعدت عالقاً في لندن بسبب بركان أيسلندا لمدة أسبوع، وفعلا أنا باحمد ربنا إنه شفاني من رهاب ركوب الطائرات، بعد ما ضيعت خمسين سنة من عمري تقريبا من غير سفر، ما خرجتش فيها من مصر غير مرة واحدة بس، دلوقتي باحاول أعوض كل اللي فاتني، مافيش فرصة سفر بتجيللي وأضيعها، ورغم أني كنت حبيس البركان هناك في إنجلترا، لكن كنت مستمتع جدا، ومش هارجع أخاف تاني من الطيران، المفروض إني كنت أرجع بطريق البر إلي جنوب أوروبا يوم السبت ومن هناك أركب الطائرة، لكن الأجواء اتفتحت ورجعت مباشرة، وبما أني رجعت لازم أحضر الشهادة بتاعتك هنتقابل في دار الكتب. كان عندي رحلة تانية الأسبوع الجاي لكن أكيد هالغيها، صعب أسافر تاني بعد أسبوع الأجازة الإجبارية، أنا حريص أحضر الشهادة بتاعتك، لأنه أكيد يهمني موضوعها طبعا، يهمني لأني عارف إن لك آراء مهمة في حياتنا الثقافية وفي كتير من ظواهرها، ولأني باحب أسمع آراءك الجريئة والمختلفة مع السائد عادة. سلام، وإلي اللقاء يوم الأربع اللي جاي». بس خسارة ما عرفتش وما حضرتش، والدعوة ما شفتهاش للأسف غير بعد الميعاد. كنت قد التقيت به قبلها بأسبوعين تقريبا لدقائق معدودة، مر عليّ ليترك لي كتابا من كتبه، لم يقل لي علي الشهادة، وكانت المرة الأخيرة التي ألقاه فيها، بعدها بأسابيع قرأت نعيه، وذهبت للعزاء فيه. عرفت محمد عبد السلام العمري منذ ما يقرب من عشرين عاماً. كان اللقاء الأول في منزل الروائي الكبير علاء الديب، تعرفت عليه مهندسا وروائياً. كان قد صدر له عمل جديد وقتها، أظنه «شمس بيضاء»، أهداني نسخة من العمل، من يومها تواصلت علاقتنا، نتقابل علي فترات متباعدة، لكن دوما كانت تشدني إليه الرحابة التي تميزه والود الذي يغمر به المحيطين. لم يكن شخصا تقليديا تمر به مرورا بلا أثر، بل دائما ما يترك علامة بأفكاره وآرائه الجريئة، كانت له دوما آراء تدفعك إلي التفكير، آراء في القضايا الثقافية بشكل عام وفي العمارة التي هي تخصصه الأساسي قبل أن تصبح موهبته الأدبية هي المدخل لعلاقته بعالم الثقافة. ترك العمري قرابة خمس عشرة مجموعة قصصية وعملا روائيا، ما بين مجموعته الأولي «إلحاح» التي صدرت سنة 1987 ورحيله المفاجئ عن عمر يقارب الستة وستين عاما، ورغم اتجاهه للإبداع الأدبي لم يترك الاهتمام بالعمارة تخصصه الأساسي، فكتب عن عمارة حسن فتحي كتابه «عمارة الفقراء أم عمارة الأغنياء»، الصادر سنة 1992، وكان «عمارة الأضرحة» آخر كتبه التي صدرت قبيل رحيله، وقد استعرض فيه عمارة مجموعة من أهم الأضرحة وأشهرها في العالم، ويا لها من مصادفة غريبة أن يكون آخر أعماله حول مساكن الموتي. وأنا أختم هذا المقال تلقيت اتصالا هاتفيا من ابنته رحاب تدعوني لحضور ندوة عنه باتحاد الكتاب بالقلعة!