حين احترق «سيدي القناديلي» كان الغجر قد رحلوا إلي أطراف المدينة، إلي حيث مقابر «أبو المعاطي» وسوق الجمعة وحارة العيد. كان بيتنا في أرض «زعتر» تطل خلفيته علي مخيم الغجر، وكنت إذا ما صعدت إلي السطح أري مقام سيدي القناديلي وسط غيط سيد قريش، بلونه الأبيض وقبته الصغيرة الخضراء. كان بيتنا يطل علي شارع ضيق غير ممهد هو جزء من أرض زعتر التي راحت تتحول إلي بيوت، وكان الغجر أنفسهم يأتون إلي بيتنا لمساعدة أمي في أعمال الكنس والمسح. أظن أن أمي كانت تتعامل معهم بحذر فهم يشربون السبرتوالأحمر، ويقومون بالليل بمعارك رهيبة علي ضوء مواقدهم التي يحرقون بها قطعا من الحطب أو مخلفات ورش النجارة و«الأويما»، كما أنهم لصوص. لاتنسي أرض زعتر وحارة معري صورة أقدام خميس بالكعب والأصابع الخمسة، مطبوعة علي جدار دكان حامد البقال، حين اقتحم الدكان ليلا من الشراعة العلوية وسرق ما فيه، وبقيت آثار أقدامه الحافية علي الجدار. اصطفت أمي واحدة كانت تأتي عندنا باستمرار هي «سعدية الغجرية» كانت تقول إنها ولدت في بلد يعرف بالبحر الصغير. كنت أعجب أي بحر وأي صغير، وأندهش من ردائها الأسود وعقودها الخرزية الملونة والحلقان والشخاليل التي تزين ملابسها وتخترم أنفها، وأتساءل لماذا يلبسون هذه الملابس؟. حين مات أبي كانت تجالس أمي أوقاتاً كثيرةً للترويح عنها. أخذني الذهول حين رأيتها تقف أمام أمي، تضرب أصابعها بصاجات معدنية وترقص وأمي تضحك بصوت عال. فاجأهما دخولي فتوقفت سعدية عن الرقص. قالت لي أمي إن سعدية حين تغيب أياما كثيرة تذهب إلي بلاد الفلاحين في مواسم حصاد الأرز، ترقص أمامهم ليعطوها مايقدرون عليه من المحصول. لا أنسي يوم هاجمنا عطية صانع المفاتيح كان قد شرب السبرتو الأحمر، وراح في حلكة الليل يخبط علي باب بيتنا المقفل دون سبب مفهوم. استيقظنا جميعا في رعب. قالت أمي بهدوء: عطية تقّل العيار حبتين. كنت أعجب أنه رغم فقرهم وسكنهم الخيام كانوا شديدي الجمال، علي الأخص «ماتيلدا» ذات الشعر الأحمر، لعلها كانت في مثل سني. كانت تنظر إليّ بعينين لن أنساهما بعد ذلك بسنين، علي أنني رأيتها حين كنت في الإعدادية وبعد رحيل الغجر، تلعب أكروبات علي مسرح صغير في مولد "أبو المعاطي" وكان الرواد يصيحون حين تكشف عن كيلوتها الوردي. هل أحببت ماتيلدا؟ كنت أعرف أنه ممنوع زواجها منا نحن البشر العاديين، يقولون إننا فلاحون وهم لا يتزوجون من الفلاحين، كان يأخذني الألم كيف لا يسمح لي أن أقترن بماتيلدا؟. كانت ماتيلدا تقف علي مبعدة ونحن نلعب أنا وأختي وابن عمي لعبة البيوت أو لعبة عروسة وعريس. كان شعرها الأحمر مهوشاً دائماً، لكنها كانت لا تقترب ولا تلعب معنا. فقط تنظر إلينا. كنت أناديها، تعوج رأسها علي جانب ولا تأتي، لماذا لم تلعب معنا ماتيلدا؟ كان يمكن أن تكون عروستي في لعبتنا. انتشرت الشائعات أن بيتنا سيزال لتوسيع الشارع وأن الشارع سيقسم أرض قريش نصفين، وأن سيدي «القناديلي» سيزال بدوره لأن الدولة ستبني مستشفي مكان الغجر. بالفعل راحوا يهدمون البيوت ليفتحوا شارعاً عريضاً يصل إلي شارع المتنبي، نجا بيتنا من الإزالة وانفتح شارع باتجاهين أمامنا ثم جاءت قوات كثيرة لترحيل الغجر. لا أنسي يوم حملوا أشياءهم وأغنامهم علي عربات كارو، كانوا يتصايحون ويزعقون ويتشاجرون وكانت العربات تحملهم وتمضي دون أن ينظروا خلفهم، وحدها ماتيلدا جالسة في مؤخرة العربة مستندة بظهرها إلي الخيمة الملفوفة، راحت تنظر إليّ، هل رفعت يدها حين بدأت العربة تستدير لتغوص في حارة معري، هل رأيت دمعة تنحدر؟ هل ابتعدت ماتيلدا؟. بعد أربعين سنة أسأل نفسي، أسألها كثيراً، لماذا رفضت ماتيلدا أن تأتي.