انكشف السر، أُزيلت البيوت، وأُقتلع الذرة من أرض سيد قريش، ورُحّل الغجر إلي جوار المقابر، وجاءت الجرافات لا لبناء مستشفي كما أشيع بل لبناء سجن وصارت الأرض جرداء خالية ، وحده مقام سيدي القناديلي بقبته الخضراء يقف وسط الأرض الترابية، يعترض امتداد الشارع العريض. تحيرنا جميعا ماذا سيفعل سيدي القناديلي أمام الجرافات وبوابير الزلط الثقيلة التي لا تتوقف عن العمل؟ والعمال الذين ينزلون تلالاً من الحجر الأبيض ويدكونه علي الأرض الترابية، كل يوم يتقدم العمل إلي أن صار علي بعد عدة أمتار من سيدي القناديلي. توقعنا أن يثأر صاحب المقام لنفسه، لا يمكن أن يسمح باختراق الشارع لمقامه وإزالته من الوجود. كان العمال الصعايده يأتون إلي بيتنا لطلب الماء بينما العرق يتصبب منهم، يقولون: لاحول ولا قوة إلا بالله. تقول أمي وأنت مالك ياخويا أنت عبده المأمور. سرت الإشاعات عن شلل مفاجئ أصيب به مهندس المشروع الذي مد الطريق علي الورق، دون وضع اعتبار لصاحب المقام الذي لم يرد طالب حاجة، مسكين، أو موروط، أو مربوط، أو عانس، سيدي القناديلي الذي أعاد «عصمت» ابن «أم يسر» الجندي في حرب 67 بعد دفنه بمعرفة فصيلة من الجيش في مقابر أبو المعاطي، وإطلاق 21 طلقة في الهواء، وتلقي أهله العزاء فيه. «أم يسر» لم تقتنع بأن من دفن هو ابنها، أوقدت الشموع للقناديلي، وأسرت له بما عندها، لم تنتظر طويلاً إلي أن رأت «عصمت» بملابس مهلهلة واقفاً أمام الباب. لم تنقطع الشموع عن المقام حتي والجرافات تعمل، وقد ملأنا اليقين أن القناديلي سينتقم، أوعلي الأقل سيتم تحويد الطريق بحيث يتفادي المقام. بالفعل توفي مقاول المشروع وتوقف العمل، فقط بقيت جبال من الزلط، صارت المكان المفضل للعبنا. تغيرت المعالم وصار بيتنا يطل علي شارع واسع شبه ممهد، نسينا المشروع وبقي القناديلي صاحب الكرامات مضاءة شموعه، يأتيه الزوار من كل مكان، كانت أمي تنظر باسمة من فوق السطح وتحييّ صاحباتها اللاتي يذهبن للزيارة أو للوفاء بنذر. إلي أن صحونا في يوم علي ضجيج هائل، كانت آلات أخري قد جاءت وعمال آخرون، بدا أن العمل قائم منذ ساعة مبكرة، كان الطريق المدكوك قد قارب المقام وكانت الآلات تزلزل الأرض، رغم إشفاقنا علي سيدي القناديلي لم نفقد الثقة في قدرته علي وقف هذه الآلات الجبارة ، لم نكن نجهر بالاعتراض فمن يعارض الحكومة يذهب إلي وراء الشمس، كنت لا أعرف ما إذا كان وراء الشمس حكومة تستلم من يذهبون إلي هناك، وأري صورة الرئيس عبد الناصر يبتسم في المدرسة، وأتساءل إن كان شاهد «وراء الشمس» التي يأخذون الناس إليها. وقفت فوق السطح أرقب الآلات تعمل، أرض زعتر و حارة معري وقفت تنتظر إما تحويد الطريق أو يمحق القناديلي الجميع. توقف العمل مرة أخري عند حدود المقام، وسحب المشروع من المقاول لأسباب غامضة، للمرة الثانية ينتصر القناديلي، تكاثرت الشموع والزائرون، وأعيد طلاء المقام، حتي من لم يكن يعتقد في القناديلي صار من رواده، أسطوات الموبليا و تجار المخدرات واللصوص وبقايا الغجر الذين تسربوا إلي الأزقة المجاورة. صار الناس يتحدثون عن كرامات القناديلي، وذاع صيته إلي بلاد بعيدة، خاصة بعد أن جاءت الأخبار أن البناء الذي سيقام عبارة عن قسمي شرطة وسجن، وكان الناس لم ينسوا واقعة قتل ضابط في الجمرك النهري لاثنين من الصيادين في وضح النهار، وخروج الناس للتظاهر وتحطيم قسم شرطة النجدة، حتي أن قائد الجيش عبد الحكيم عامر هدد بمحو التمرد بالدبابات. بدأ العمل مرة أخري من النقطة التي توقف عندها. وقفنا نرقب أحداث اليوم التي مرت دون شيء يذكر، ساعة الفجر،صحت حارة معري، وأرض زغتر، وحتي حارة نعيم، وخلف مدرسة ابن خلدون علي صراخ «حسن البيسي» ماسح الأحذية: القناديلي ولع في نفسه. احترق سيدي القناديلي عن آخره، صار كومة من تراب، قيل إن الحكومة أحرقته ليلاً، قيل إنه أحرق نفسه حزناً علي إذلال الغجر، قيل إن الشموع تزايدت وأمسكت النار في الخشب. امتد طريق أسفلتي مزدوج يؤدي مباشرة إلي باب السجن.