كنت أعمل «أيمجياً»، حين سار سعيد وراضي في طريق جمع الثروة الكبيرة. خاب مسعاهما لأسباب لم تكن في الحسبان، اللذان احتلا الصفوف الأولي راحا يزيحان الصغار ممهدين الطريق لثروات لم يسبق لها مثيل، كانت أمي تقول إن ملابسي لا تتعبها في الغسيل فلا توجد في «الأويما» غير قطع من النشارة تتساقط علي الأرض ولا تعلق بالملابس. في حين أن ملابس أخويّ، سعيد وراضي تأتي ملطخة كل يوم، حيث يعمل سعيد عند «خليل شنشن» في أعمال الجبس والصنفرة حتي مرحلة البول الأحمر، ويعمل راضي في ذات الأعمال عند «سيد العراقي»، لم يكونا قد تعلما بعد لصق الذهب الفينو ولا الذهب الإنجليزي، كانا يحلمان بتعلم هذه المرحلة ليسارع كل منهما بفتح ورشة، وممارسة التذهيب علي صالونات يملكانها بالفعل ثم البيع بعد التذهيب لأصحاب المعارض. سعيد سبق راضي في لصق الذهب بطريقتيه، سواء علي «البول» أو «المكسيون» وسارع باستئجار ورشة في بيت «حمزة»، بمدخراته اشتري صالونين من النوع الرائج، أحدهما «لويس» والآخر «ابيسيون» مربع، وبالفعل مر عليه أصحاب المعارض ومندوبيهم واشتروا الطاقمين، وأوصوا بالتركيز علي أنواع معينة مطلوبة أكثر، لحق راضي بأخي الأكبر بنية المشاركة، اختلفا سريعاً. بعد وفاة أمي افتتح راضي ورشة في الجزء غير المسقوف من بيتنا، بعد ترحيل «سعدية الغجرية» التي لم تستطع المقاومة، أفسحت المكان لراضي ورحلت، لم نرها بعد رحيلها أبداً. كان سعيد وراضي يأملان في أنهما سيكونان من أصحاب المعارض يوماً ما، كانا قد تزوجا ورزقا بأولاد، كان أولاد سعيد قد دخلوا المدارس، أما أولاد راضي فقد كانوا دون سن المدارس، وكانا قد وضعا رأس المال كله في الصالونات المشتراة من ورش عزبة اللحم، والمنيا، والعنانية، ومن ثم لم يعد هناك من نقود للإنفاق غير ما يأتي من عوائد البيع، فإذا ما اضطربت حركة البيع قليلاً اضطربت أحوال البيت والورشة، وهو الوضع الذي أدركه أصحاب المعارض، راحوا يتحكمون في حركة البيع والشراء فإذا أرادا البيع لمواجهة مصاريف العيد أو دخول المدارس فعليهما أن يبيعا بالخسارة وإلا لن يجدا من يشتري منهما، وبالتالي انتشر تعبير «بيع سرقة» فمن أراد أن يبيع عليه أن يقبل السرقة، هكذا كنت أشاهد راضي راكباً الدراجة الهوائية حاملاً «فوتيه» مذهباً بحيث يستقر «سُؤاس» التحتاني علي قفاه، يدور علي المعارض عارضاً الفوتيه كنموذج عن كامل الصالون، عندما تضربه الشمس ويفاجأ أن جميع التجار يقولون كلمه واحدة كأنما اتفقوا عليها، يسلم بالأمر ويضطر إلي البيع، في طريق العودة يجد زملاء المهنة وقد ركب كل منهم دراجته وراح يجري في سباق العرض للبيع بالسرقة، راح رأس المال المتواضع يتآكل، المحظوظ من ربط حزاماً علي بطنه وبطون أولاده، وراح يراكم المدخرات الصغيرة، أو من أسعفته علاقات القرابة والمعارف بالبيع مباشرة للزبائن العاديين، وخاصة العرائس، لكن مزاج العرائس كان يميل للشراء من المعارض الكبري للمباهاة، ويوهم أنها أفضل، أولجهل بمناطق الإنتاج التي توجد في حواري ضيقه، وعلي أطراف المدينة، كان راضي يتجول بدراجته الهوائية في شوارع دمياط، يشاهد السيارات الملاكي التي تحمل أرقاماً من خارج المدينة، سيارات من القاهرة، والإسكندرية، وجميع المحافظات، بداخلها العرائس، أهل العروس وأهل العريس، يدخلون جميعاً صالات العرض الكبيرة بشارعي الكورنيش والجلاء، يأتون ومعهم أسماء المعارض التي سيذهبون إليها، يري صالونه معروضا وسط الصالة الوثيرة، بعد أن تم تنجيده وتسعيره بسعر خرافي، تقبل عليه العرائس والعارض يشرح لها مميزات الصالون ومكوناته، وكيف أنه تم إنتاجه بمصانع خاصة بالمعرض، يشاهد راضي صالونه وقد صار لاينتمي إليه، بعد أن تحول إلي مكاسب رهيبة لصاحب المعرض، يتمني لو أنه يصرخ فيخترق صوته زجاج الواجهة اللامعة، أن يقول للزبائن والله ده شغلي، كان الزجاج عازلا محكما للصوت، يسير أخي منفلتاً إلي الشوارع الضيقة مبتلعاً يأسه ودموعه التي تمتنع عليه، فيما يستقر «سُؤاس» التحتاني علي قفاه.