رغم تصاعد دعوات بعض القوي السياسية لمقاطعة انتخابات مجلس الشعب المقبلة، ورغم شيوع مقولة أن نتائج هذه الانتخابات معروفة سلفاً فإن مصر بدأت تدخل بقوة أجواء الانتخابات البرلمانية، وامتلأت الشوارع والميادين في أنحاء المحروسة بالصور واللافتات التي تحمل أسماء الطامحين والطامعين في احتلال مقاعد البرلمان لتغازل أعين الناخبين الذين تتزايد قناعتهم يوماً بعد يوم ومنذ أعلنت نتائج انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشوري بأنه لا حول لهم ولا قوة، وأن أصواتهم لن تقدم أو تؤخر فيما قرره الحزب الوطني سلفاً، وفيمن اختارهم ليكونوا نوابه ومعارضيه تحت قبة البرلمان، والحقيقة أن هذه القناعة لا تخص الناخبين وحدهم ولكنها تخص المرشحين من قبلهم، فالاعتقاد الراسخ لديهم أن الفوز بترشيح الحزب يعني الفوز المبكر بالمقعد الوثير وأن المعركة الانتخابية الحقيقية هي تلك التي تدور رحاها بين الإخوة الأعداء داخل الحزب في المحافظات، وهي حرب وقودها المال أحياناً والعلاقات أحياناً أخري والإشاعات المشينة في كثير من الأحيان، فإذا انتهي الحزب من الاختيار فقد حُسم الأمر وبدأ أصحاب الحظوة في الاحتفال بالنجاح دون انتظار نتائج الانتخابات العامة، بينما ذهب الباقون إلي التشكيك في نزاهة الاختيار، مرددين أن الحزب الذي يزوّر الانتخابات العامة الرسمية لن يعدم الوسائل لتزوير تلك الانتخابات الداخلية الودية. المسألة السياسية في مصر مسألة فيها وجع حقيقي، فالشارع السياسي لا يهتم كثيرا بالدعوة لمقاطعة الانتخابات التي تدعو إليها بعض القوي المعارضة والتي تري في المشاركة فيها نوعاً من إضفاء الشرعية علي ما تعتقد بأنه غير شرعي، فقد قرر الناخبون مقاطعتها من تلقاء أنفسهم اعتمادا علي أن أولي الأمر سينوبون عنهم في التصويت لمن يتمتع بالمواصفات القياسية للحزب الوطني، أما المعارضة فلا يثق أحد في قدرتها علي الاتفاق مهما أدارت من ندوات أو عقدت من اجتماعات، فبعضها يدعو للمقاطعة لإحراج الحزب الحاكم، والبعض الآخر يصر علي المشاركة لأنه يري في المقاطعة نوعاً من الانسحاب الذي يؤدي إلي تهميش دورها وإبعادها عن الخريطة السياسية خصوصا في ظل وجود متطوعين للقيام بدور الكومبارس بأبخس الأجور، والكل في النهاية لا يطمح إلي الفوز وإنما التمثيل «الهزيل»، أما الإخوان فسيخوضون التجربة لا محالة مهما كان اقتناعهم بإصرار النظام علي إبعادهم، ونتيجة فقد الثقة في الجميع يزداد الوجع لدي الناخب المصري ويقوي اعتقاده بأن الحزب الوطني «هيعمل اللي هوه عايزه»، والكارثة أن تنتقل عدوي هذا الاعتقاد إلي المثقفين وأصحاب الرأي لأن ذلك يهيئ الرأي العام للتزوير المبكر ويجعله أكثر استيعابا للنتائج أيا ما كانت لأنها لن تكون مفاجئة له في كل الأحوال، ولاشك في أن المتابع لتعليقات القراء علي المقالات التي تنشرها الصحف وخصوصا الصحف الخاصة لابد أن يشعر بحجم الوجع الذي يعيشه القارئ «الناخب» الذي أصبح كثيراً ما يستنجد بكاتبه للبحث عن حل لهذه الأوضاع المتردية، بل إن كثيرين باتوا يسألون الكاتب عن دور محدد يمكنهم القيام به، وهو سؤال يلزم لمن يتصدي للإجابة عنه أن يدرك جيدا التركيبة النفسية للمصريين والظروف التي تحيط بهم في حياتهم اليومية قبل أن يطالبهم بما لا يستطيعون القيام به. إذا كنت عزيزي المواطن حقاً تبحث عن دور وتبدي استعدادك للمشاركة، فأول وأهم ما يمكنك القيام به أن تحسن اختيار نائبك فإذا كنت تئن ظلما وتتضور جوعاً، تستنكر قانون الطوارئ الدائم وترفض كل القوانين الملاكي الأخري، تُلهب حياتك الأسعار المارقة والضرائب الحارقة وتحني رأسك الدخول المتآكلة، فتذكر أن نواب الشعب الذين أوكلتَ إليهم أمرك وألقيتَ عندهم همّك هم من باعوك عند رصيف المجلس فمدّدوا الطوارئ ومرّروا القوانين وقصموا ظهرك بالضرائب، فهل ستعود لتعطي صوتك لنائب فعل بك هذا؟! أم ستعطيه لآخر يتقاتل ويتكالب للحصول علي ترشيح الحزب الوطني عارضا خدماته الحزبية ومعلناً استعداده التام لاستكمال مسيرة سابقة في جلد المصريين؟ .. لا تردد كثيرا أن الحزب الوطني سيفعل ما يريد وأن صوتك بلا قيمة فليس هذا حقيقيا، فلا يمكن لأحد مقاومة شعب يصرُّ علي التغيير والإصلاح، ولا يمكن لحزب مهما امتلك من أدوات ومهما تحكم في كل المفردات أن يستمر بالتزوير إلي الأبد، فالجلاد رغم سطوته وقوته وسياطه وأغلاله يظل يرتعد خوفاً أمام نظرة في عيني أسيره، وظلام الكون الدامس لا يمكنه أبداً أن يحجب بزوغ ضوء الشمس الساطع.