بكل المقاييس لم يعد ممكنا أن تستمر القاهرة عاصمة سياسية واقتصادية وثقافية لمصر في آن واحد بعدما فشلت كل محاولات الترقيع والتجميل والتحديث علي مدي عقود، والحل الوحيد هو تفكيك هذه البنية المركزية السلطوية المعقدة التركيب إلي عاصمتين، واحدة سياسية..والأخري اقتصادية، بينما تتوزع الأنشطة الثقافية بينهما ولأن ثلاثة أرباع الاقتصاد المصري منوط بالقطاع الخاص حسبما تقول الحكومة، فلن يكون متاحا نقل الأنشطة الاقتصادية من مصانع وشركات ومؤسسات ومصارف وغيرها بقرار سلطوي، لكن الممكن هو نقل المقار الحكومية العديدة بدءا من القصر الرئاسي، مرورا بمقر الحكومة، وانتهاء بمقار الوزارات والهيئات الحكومية والسفارات الأجنبية، الأمر الذي سيحدث تغييرا جوهريا في تركيبة القاهرة الحالية ويفرغها من مصدر رئيسي من مصادر زحامها واضطرابها. فعندما تنتقل كل هذه المقار بمسئوليها الكبار وما يسببونه من أزمات مرورية نتيجة دواعي الأمن، ناهيك عن تفريغ القاهرة من مليوني موظف وإداري وعامل يعملون في هذه المقار، سيهدأ زحام القاهرة ويقل حجم الضوضاء والتلوث والتوتر التي يعاني منها سكان العاصمة علي الأقل لفترة من الزمن، بل إنه من المتوقع أن تنتقل طوعا بعد ذلك بعض الأنشطة الاقتصادية والثقافية إلي العاصمة السياسية الجديدة بحكم تعاطي خدماتها وارتباطها بالنخبة السياسية. حقيقة الأمر أن الخطط الحكومية التي نشرت بالصحف قبل أسابيع حول نقل مقار الحكم والوزارات إلي جنوب شرق القاهرة قرب التجمع الخامس، لن تزيد القاهرة إلا رهقا، ذلك أن المسافة التي يقطعها العاملون بهذه المقار الآن ستتضاعف ويتضاعف معها الوقت المهدر ويتزايد معها الازدحام بدلا من أن يتراجع، كما أن مشكلات العاصمة ستستمر في كل المناحي والجوانب، بل إن بعض خبراء التخطيط العمراني والهندسة يعتبرون أن نقل العاصمة يجب أن يتم علي مسافة لا تقل عن 200 كيلو متر، وإلا فإن العاصمة الجديدة ستلتحم مع القاهرة القديمة خلال 30 سنة أخري قياسا بحركة امتداد القاهرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. الحل يكمن في عاصمة سياسية تبعد 300 كيلو متر ولتكن مدينة «العلمين» التي تتمتع بخصائص تميزها عن غيرها من المواقع المنافسة، فالعلمين تقع في قلب الساحل الشمالي حيث توجد بنية تحتية قائمة غير مستغلة لمدة 10 أشهر كل عام ويربط المدينة خط حديدي يمكن تطويره بقطارات فائقة السرعة تقطع المسافة إلي القاهرة في ساعة واحدة، كما أن الحكومة تعتزم واقعيا تحويل المدينة إلي مدينة مليونية تستوعب مليونا أو يزيد من السكان، وتنوي الدولة تشييد مطار دولي وعدد من المنشآت التعليمية والصناعية والسياحية بها ومحطة نووية للطاقة الكهربية حتي تكون نقطة جذب ومنطلقا لتعمير الساحل الشمالي الغربي الذي طال هجره وينظر إليه خبراء التعمير والهندسة علي أنه مستقبل مصر الحقيقي خلال الأعوام الخمسين المقبلة. فإذا كانت تلك هي نظرة الخبراء وأهل العلم والمشورة، فلماذا تهدر الحكومة المال والوقت في البحث عن حلول وقتية عقيمة لن تزيد طين العاصمة إلا بلة، بينما الحل قريب في منطقة تصلح بحق أن تكون واجهة مشرفة لمصر المستقبل، حيث البحر والمناخ الرائع طوال العام، والنقاء والصفاء والطبيعة الخلابة وهي أيضا ليست ببعيدة عن النيل والعمران؟ دول كثيرة سارعت إلي حلول مماثلة والبرازيل خير مثال، إذ نقلت عاصمتها السياسية من ريو دي جانيرو، المدينة المثخنة بجراح الفقر والازدحام والتلوث إلي برازيليا، التي جعلتها مدينة حضارية حديثة تضاهي أرقي العواصم العالمية. شرم الشيخ رغم وجاهتها فإنها مدينة خُططت لأن تكون منتجعا سياحيا ولا يصح أن نفسدها بزحام ومشاكل السياسة والسياسيين، بل إن موقعها في جنوبسيناء يعزلها لأسباب جغرافية وعسكرية عن وادي النيل الذي يتحتم قرب العاصمة منه. لتكن القاهرة عاصمة اقتصادية بمصانعها وشركاتها وعاصمة ثقافية بأهراماتها ومتاحفها الفرعونية وآثارها القبطية والإسلامية ومعاهدها ومسارحها، ولنعطها فرصة في الراحة وأملا في إصلاح ما يمكن إصلاحه، ولتكن العلمين عاصمة مصر السياسية بوجه حضاري جديد يناسب مصر وما تطمح إليه في المستقبل.