احتفل التليفزيون المصري في الأيام القليلة الماضية باليوبيل الفضي «50 سنة» علي إنشائه، ومازالت نبرة المسئولين تؤكد أننا أصحاب الريادة الإعلامية في الوطن العربي، وهي لا تفرق كثيراً عن نبرة «النعرة الفرعونية المصرية» بأننا أحسن ناس، وهي نظرة تأتي بأثر رجعي، فقد كنا أحسن ناس وكنا أصحاب الريادة الإعلامية ، ولكن يبدو أننا نعيش علي أطلال الماضي وهو يأتي عندما تقل إنجازات الحاضر وتفقد الرؤية المستقبلية. ظللنا نهلل ونفرح ونفتخر بأننا أبناء وأحفاد الفراعنة الذين أذهلوا العالم بإنجازاتهم البشرية في مختلف المجالات من هندسة معمارية وطب وفنون وغيرها، وأننا أصحاب ريادة في كل شيء، ووقفنا عند مرحلة التهليل والتهويل، في الوقت الذي بدأ العالم يدرس في هذه الحضارة ويأخذ منها ومن علمها، ويضيف عليها الكثير بفعل التطور والحداثة حتي كونوا لنفسهم حضارات أخري بها إنجازات كبيرة واختراعات عظيمة أفادت البشرية أيضاً، ومازالت في تطور يومًا بعد الآخر. وهذا هو الفارق الكبير بين شعوب كثيرة الكلام وقليلة الفعل، وشعوب كثيرة الفعل وقليلة الكلام.. الفارق الثاني هو قدرة هذه الشعوب علي تقييم ذاتها وتقييم الآخرين. وهنا أعود لفرط الحديث من القيادات الإعلامية في الأيام السابقة عن حجم الحرية الممنوحة وأننا أصحاب الريادة.... تاني؟!!! ودعونا نتوقف عند بعض المعاني. خاصة معني الريادة. صحيح أن التليفزيون المصري هو أول تليفزيون أنشئ في المنطقة، وصحيح أنه حفل بقيادات إعلامية وإعلاميين يرفع لهم القبعة في مجال التقديم التليفزيوني والإعداد، وصحيح أنه كان مفرخة للعاملين في العمل التليفزيوني بباقي القنوات الفضائية منذ ظهور القنوات الخاصة، بل مفرخة لتدريب العاملين بتليفزيونات الدول العربية عند إنشاء قنواتها. كل هذا كنا أصحاب مبادرة فيه، بل وأصحاب ريادة «علشان القيادات ماتزعلش»، ولكن أين نحن الآن، وأين موقعنا؟ هل مازلنا رواد الإعلام؟! الرائد دائماً هو القدوة، هو صاحب المرتبة الأولي ويأتي بعده التابعون. إذن علينا أن نقيّم أنفسنا بموضوعية حتي تكون تلك هي البداية لاسترداد مكانة الريادة التي سحبت منا. والتقييم الموضوعي هو أن التليفزيون المصري رغم التطورات الأخيرة والمحاولات الجادة في حالة يرثي لها. قل لي كم عدد المصريين الذين توجد في منازلهم قنوات أرضية ويتابعونها؟! الدراسات الأخيرة تؤكد أن نسبة مشاهدة الفضائيات أعلي بمراحل من مشاهدة القنوات الأرضية، اللهم إلا إذا كان هناك برنامج أو اثنان علي الأكثر، من الممكن مشاهدتهما وبس! إذن من حيث نسبة المشاهدة.. لم نعد أصحاب ريادة. قل لي أين الإعلاميون المخضرمون الذين تعلمنا منهم معني القيادة «LEADERSHIP» وتعلمنا منهم تواصل الأجيال وصناعة صف ثان من القيادة، واكتشاف المواهب وصناعة النجوم. وهناك أسماء كثيرة ولكني أقف عند اسم واحد فقط علي سبيل المثال وعلي سبيل الخبرة الشخصية، هو السيدة سهير الإتربي التي كانت تقود دفة التليفزيون بضمير وفكر وحنكة لا مثيل لها. كان كل همها... الشاشة. وكانت تلتقط المواهب وتضع معايير لمن تختارهم من ثقافة وفكر وحضور وابتكار ثم تقوم بتضفيرهم مع من يملك نفس المعايير من أبناء التليفزيون وتحثهم وتشجعهم علي العمل ومن ثم كانت الشاشة زاخرة بأعمال قيمة، وبالتالي بنسبة مشاهدة عالية، وكان وقتها أيضاً الفضائيات الخاصة قد بدأت، وتوجد منافسة حقيقية، وخدمة إعلامية متجددة ورسائل اجتماعية واضحة. وهذا هو الإعلام وهذه هي القيادة، وإن أرادوا، هذه هي الريادة. وبدلاً من أن يستفاد من خبراتهم، أرسلوا لها، خطاب شكر علي مجهوداتها السابقة، يعني مش عايزين نشوف حضرتك تاني!!! سؤال آخر يتردد كثيراً هذه الأيام.. أين أبناء التليفزيون؟! - أنا أقول لك: اذهب إلي مبني ماسبيرو، ومر مرور الكرام علي مكاتب المخرجين والمعدين والمذيعين إما أن تجدها خاوية لأنهم يجلسون في المنزل، أو أنهم يندبون حظهم علي سنوات العمر التي مضت في هذا المبني، وخبرتهم التي وضعت في الأدراج مع الأوراق المهملة هل هذا هو حال أصحاب الريادة الإعلامية؟! كنت أظن من الوزير أنس الفقي - وأرجو أن تسود بيننا ثقافة الاختلاف - أن يأتي باستراتيجية وأهداف تسترد لنا بساط الريادة الذي سحب. كنت أظن أن هناك متخصصين في العمل الإعلامي، وأصحاب رؤية ودراسات ومنهج علمي يسيرون عليه، أن يأتي بهم ويقيموا له - للوزارة أقصد - العاملين في مختلف المجالات، ويأخذ منهم المبدعين ويكسبهم مزيدًا من الخبرة بدورات تدريبية، برحلات خارجية للإطلاع علي تليفزيونات العالم المتقدمة بأي طريقة كانت ثم يستفيد منهم ويكبرهم وينميهم، وهذا هو دور القائد. كنت أظن من الوزير أن يعمل بروح الفريق، وتستفيد الوزارة والشاشة من الجيل الجديد والذي يحمل كثير منهم رؤي مغايرة تستطيع أن تنهض بمستوي الشاشة ومستوي الإعلام المصري واسترداد الريادة التي ننشدها. فالعمل الإعلامي - كما يدرك الإعلاميون - عمل يختلف في تفاصيله ومنهجه عن أي عمل آخر. فهو لا يأتي بشكل مركزي أو رأسي من أعلي إلي أسفل. أي أن القيادة عايزة كذا وكذا وانتوا نفذوا من غير كلام أو جدال. العمل الإعلامي عمل يقوم علي معايير فكرية في المرتبة الأولي، أي أن سقف الأفكار والأحلام والإبداع فيه غير محدود ومن هنا يأتي الابتكار. وهو ما يتنافي مع تقييد الإعلاميين بأوامر أو رؤي أو توجهات محددة. من أين يأتي الابتكار والمبتكرون من أساسه مبعدون؟! كنت أظن أن القيادات الإعلامية ستقدم تجربة رائدة في مفهوم القنوات الخاصة، وتفض الاشتباك بين الهيمنة الحكومية الإعلامية والقنوات الخاصة، لكن أن يخرج نجيب ساويرس وأحمد بهجت صاحبا قنوات خاصة ويعلنان تخوفهما من سيطرة الإعلام الحكومي بقوانينه، وتدخله في سياسات قنواتهما، فهذا يعني أن هذه القنوات هي قنوات حكومية ب«نيو لوك» فقط، لكن مازال سقف كل شيء محدودًا بالنسبة لهما، والحدود تضعها الدولة. لا أقول أن ترفع الدولة يدها عن منح التراخيص للقنوات الخاصة أو منعها، فلتقوم بهذا الدور، ولكن هذا هو الدور الوحيد، لكن أن تتدخل في تفاصيل الشاشة التي ستخرج بها هذه القنوات لدرجة أن تسمح الدولة بوجود برنامج توك شو يومي أولاً علي هذه الشاشات.. فهذا مع احترامي ليس دور الدولة علي الإطلاق. وأري أن صاحب القناة يستوفي جميع الإجراءات القانونية والموافقات الأمنية التي تؤخذ علي القناة وعلي صاحبها، يكفي أن يوقع ميثاق شرف بعدم المساس بالأخلاق والآداب العامة وعدم ازدراء الأديان أو المساس بالصالح العام للدولة. ثم يُترك للقائمين علي هذه القناة حرية الإبداع وحرية التعبير وحرية اختيار الرسائل الإعلامية الموجهة، وحرية ضبط إيقاع الشاشة، فكل هذه القيود تجعل حتي هذه القنوات ذات إيقاع بطيء وغير ممتع ولا يحمل في طياته أفكارًا جديدة أو حتي ابتكارًا، ومن هنا بدأت قنوات عربية أخري تسير علي هذا المنهج، وتضبط إيقاعها، وتجتذب المشاهدين، وتسحب البساط. كنت أظنُ.. ويا ليتني ما ظننت. وبمرور خمسين عاماً علي إنشاء التليفزيون المصري لابد من تحية تقدير للقيادات المُبعدة. ولابد من إعادة تقييم أنفسنا، فقد قال يوسف السباعي بعد إنشاء التليفزيون مقولته الشهيرة: «اعطني تليفزيوناً.. أعُطي لك شعباً» فإن نظرت الآن إلي حال الشعب المصري، ستعرف حال التليفزيون المصري!