كان للسعدني الكبير رحمه الله صديق اسمه عبدالحميد حمدي وكان عم عبدالحميد من أكبر خبراء إطفاء الحريق في الشرق الأوسط.. وكلما تكلم في موضوع.. أي موضوع.. أدار دفة الحديث إلي الكلام عن الحريق وكيف أنه تمكن من إطفاء أعظم الحرائق في أكبر آبار البترول، فإذا حكي السعدني عن رحلته إلي عاصمة الضباب وكيف أنه رأي معالم لندن الشهيرة ورجالها الجادين وحريمها الحلوين تدخل عم عبدالحميد وأوجد علاقة بين الطقس وقلة إندلاع الحريق ولذلك أطلق عليه السعدني لقبا، وهو «عبدالحميد حريقة»، فلم يعد أحد يذكر اسم أبيه حمدي واشتهر وسط الأدباء والنقاد والمشاهير من أصدقائه باسم عبدالحميد حريقة.. لقد تذكرت بالخير عم عبدالحميد حريقة وأنا أتابع هذه الأيام الحملة المسعورة التي يتعرض لها فنان كبير المقام عظيم الأثر في دولة الفنون هو المخرج القدير جلال الشرقاوي، وأصل الحكاية أن الشرقاوي اتخذ من أحد الأبنية ومنذ سنوات بعيدة مكاناً تحول إلي منارة للفنون وبوتقة للأفكار والرؤي ومنصة لإطلاق المواهب الفنية أجيالا وراء أجيال.. ومع شديد الأسف فإن مسارح مصر أغلقت أبوابها بالضبة والمفتاح.. أين هو مسرح محمد صبحي؟! والأدهي من ذلك والأفظع هو اين فرقة الفنانين المتحدين ونجمها الأسطوري عادل إمام وحتي المسرح اليتيم الذي يعتمد علي نجم وهو مسرح سمير غانم يعرض يومين اثنين فقط في الأسبوع، وعلي مسرح الريحاني هناك رواية سكر هانم التي يلعب بطولتها النجوم الكبار عمر الحريري ولبني عبدالعزيز وطلعت زكريا.. وبنظرة حول المسرح المصري بقطاعيه العام والخاص سنجد الحال لا يسر عدواً ولا حبيباً، وكنت أفهم أن تقوم الدولة ممثلة في شخص معالي وزير الثقافة فاروق حسني بتقديم الدعم اللازم لكل فنان يبحر عكس التيار ويشعل شمعة في الظلام الدامس الذي يواجه المسرح المصري ويكاد يصيبه بالسكتة الفنية ولكن ومع شديد الأسف وجدت السيد فاروق حسني يسلك نفس مسلك عم عبدالحميد حريقة تماماً.. فكلما هم الشرقاوي لتقديم عمل فني علي «مسرح الفن» قال الوزير: أنا خايف من الحريقة.. وإذا أكد الشرقاوي إجراءات الأمن والسلامة والمتانة تأهبت أجهزة الدولة ممثلة في محافظة القاهرة وقامت بحملة شعواء لإثبات عدم صلاحية هذا المكان لإقامة أو إنشاء مسرح يتجمع فيه ممثلون ومتفرجون خوفاً من خطر الحريق.. والشيء العجيب أن السيد الوزير فاروق حسني اتفق تماماً مع معالي محافظ القاهرة عبدالعظيم وزير علي أن خطر الحريقة الداهم.. قادم قادم لا محالة، وأن المسئولين الكبيرين يضعان أيديهما علي قلوبهما خوفاً من أحزان المبدعين والمشاهدين أثناء مشاهدة المسرح داخل هذا المكان غير الآمن اللعين الذي اختاره الشرقاوي دون سواه لكي يقدم فناً محفوفاً بالمخاطر.. ولأن الشرقاوي ليس هو الرجل الذي يجرجر المشاهدين إلي المحرقة فقد سارع وخاطب أعظم الدول المتقدمة في صنع أجهزة مكافحة الحريق، وبالفعل جلب من ألمانيا أحدث وحدة إطفاء حريق في العالم بلغت تكاليفها كما ذكر الرجل مليوناً وسبعمائة ألف جنيه، يعني الرجل درء خطر الحريق واستعد له.. ولكن السيد فاروق حسني والسيد عبدالعظيم وزير كان لهما الموقف نفسه، وتوجه العم عبدالحميد حريقة.. فكانت الحريقة هي الهم الأول والهاجس الأوحد لهما وأود أن أسأل معالي وزير الثقافة سؤالاً أتمني منه أن يتفضل ويرد عليه وعلي الملأ إذا تفضل وتكرم.. لقد احترق في عهدكم السعيد قصر ثقافة بني سويف وراح ضحية له 27 مبدعاً من صغار المسرحيين الواعدين وعدد من جمهور النظارة.. وبالمناسبة لم يكن جلال الشرقاوي هو مخرج هذا العرض ولم يكن منتجاً له، ولم يكن حتي مشرفاً عليه، وبالطبع لم يكن مسرح الشرقاوي هو المقر المختار للعرض المحترق ومع ذلك قامت الحريقة والتهمت هؤلاء المبدعين وحولتهم إلي رماد منثور.. ودار الأوبرا المصرية احترقت من بكرة أبيها ولم يتبق منها شيء حتي ينفع للذكري، ولم يكن لجلال الشرقاوي ومسرحه دخل بالحريق.. واحترق مجلس الشوري المصري وشاهدنا هذا المبني الأثري التاريخي وهو يتحول إلي وقود للنيران.. ولم يكن الشرقاوي حاضراً بنفسه أو بشحمه ولحمه أو بحرائقه التي تخشونها مسرحياً.. يا معالي وزير الثقافة هل تذكر مبني المسافرخانة وما جري له بفضل الحريق الذي قضي علي هذا الأثر غير المسبوق.. هل زار الرجل النحس جلال الشرقاوي هذا الأثر في يوم من الأيام أو حطه في دماغه أو فكر في أن يقلبه إلي مسرح لا سمح الله، يا عمنا فاروق حسني دعني أصارحك القول بأنني أشم رائحة غريبة في مسألة جلال الشرقاوي.. وياريت تفضوها سيرة.. وتقولولنا الحقيقة، هل أصبحت مهمة وزارة الثقافة هي إغلاق المسارح بحجة الأمن والسلامة. إن آخر أنوار المسرح تستغيث بأكبر رأس في الدولة لإنقاذ المسرح المصري من هؤلاء المفزوعين بالحرائق، يا سعادة الرئيس حسني مبارك.. لقد تعودنا أن تتدخل في كل صغيرة وكبيرة ذلك لأن بعض أهل الحل والربط ليسوا علي قدر المسئولية.. نسألك يا سيادة الرئيس أن تحفظ الموئل الأخير للفن المسرحي من الخراب والضياع.. وعلي الذين يخافون من حريق الشرقاوي أن يتحولوا ببصرهم إلي أماكن أخري وأشخاص آخرين حيث تخرج ألسنة اللهب.. ألسنتها.. تتحدي الجميع والفاعل في كل مرة ليس جلال الشرقاوي ولكنه الماس العجيب الرهيب الذي لا يردعه أحد ولا يهاب من أحد ولا يعمل حساباً لأحد ويأتي دائماً في أوقات الجرد وأيام الحساب.. ويا عم جلال.. استعد من الآن ليوم الحساب العسير علي فعلتك المهببة.. فكيف بالله عليك يا رجل.. تصر في هذا الزمان المجدب علي فتح مسرح وتقديم فن راقي ونحن في الزمان البعرور والكاريكا وهز يا وز!!