أخذني الحماس للهتاف بين الجموع.. هي إحدى حواري التماس بين حي كرموز وحي محرم بك في الإسكندرية.. والناس تتجمع لتستمع إلى المرشح لعضوية مجلس الشعب في انتخابات عام 1984 أبو العز الحريري.. لم أتعب فلا يتعب الشباب أبداً.. اتممت منذ أسابيع فقط إحدى وعشرين عاماً، وأتممت فقط بضع أسابيع منذ دخولي عالم السياسة.. دخلت هذا العالم الغريب ويدي تمسك بيد معلمتي، معلمة التاريخ والجغرافيا في مدرستي الابتدائية (أبلة زينب) التي سرعان ماصارت فيما بعد صديقتي زينب! أروح وأجيء ويدي في يدها كطفل يتبع أمه وهي التي لا تكبرني إلا ببضع سنوات قليلة فقط! كنت استمع لكل كلمة منها بدهشة.. كل شيء تقوله لي كان جديداً.. كل صدمة فكرية وثقافية عشتها كانت هي مفجرتها..
" مفيش حاجة اسمها (العقيدة) كده بالمطلق.. كل فكرة يؤمن بيها إنسان هي (عقيدة) عنده والعقائد ياهويدا كتير.. هي مش عقيدة واحدة.. دوول كتير"، كانت تلك إحدى متفجراتها التي زرعتها في رأسي والذي كانت تنمو فيه الأفكار المزروعة بسرعة مدهشة.. تلك الأوقات!
بعد انتهاء المؤتمر الإنتخابي توجهت إليها كالعادة.. أروي لها بانفعال مفارقات المؤتمر وهي تستمع لي بينما تبيع قلماً أو كراسة لأحدهم، أزورها كل يوم تقريبا في (مؤسسة عرابي).. مكتبة لبيع الأدوات المكتبية في محرم بك أسستها وزوجها لتعيش تلك الأسرة من رزقها.. أمر على المكتبة التي صارت أحب الأماكن لقلبي – يا تلك الأوقات - ففيها كنت أكتشف كل يوم عالماً جديداً.. أمر عليها في طريقي إلى الكلية.. لا تبعد كلية الهندسة كثيرا عن المكتبة..
رحل أبو العز الحريري إذن..
لعل زوجته أفلتت يدها من يده في اللحظة الأخيرة لتتركه يمضي طالما يريد هو ذلك.. أعرف قوة تلك المرأة.. ستودعه في صمت.. أبلة زينب!
** "لو سدوا ودانهم عشان ميسمعوش أنين الغلابة.. إحنا حنروح لهم هناك في البرلمان في القاهرة ونقلق نومهم.. الغلابة صوتهم لازم يوصل ولو معملناش كده يبقى لزمتنا إيه"، يصفق الناس.. الغلابة.. يصفقون بحماس لمرشحهم أبو العز الحريري.. العامل في شركة الغزل السكندرية العريقة.. ترى هل سمعت الشركة بقرار الحريري الرحيل عن عالمنا؟! بل ياترى أصلاً هذه الشركة مازالت موجودة إلى اليوم؟
عامل في شركة الغزل عنيد صلب إلى حد الاستفزاز! ربما حُب (الغلابة) له هو ما جعله يفوز في الانتخابات السابقة.. وسيجعله يفوز في تلك الدورة أيضاً، دورة84، وحتى الدورات التي فاز فيها في المستقبل فيما بعد.. حتى برلمان (خليهم يتسلوا) في القرن القادم! صار الآن برلمانيا خبيراً.. طويل عريض له قوام مهيب.. وضحكة رنانة تبقى طليقة في الجو لبضع ثوانٍ أخرى بعد أن يتوقف عن إرسالها!
بلهجة فلاحية دخل المكتبة وكنت واقفة مع زينب أساعدها في (رص البضاعة) على الأرفف: إنتي لسه هنا مروحتيش؟ روحي بعدين تتأخري وتاخدي علقة! فلاح! يعرف أن أبي صعيدي! وهذا معناه أنني سأهلك إن عدت إلى البيت متأخرة! سأهلك لا محال! لا أريد أن أتركهما.. أبو هشام.. لا أجرؤ أن أناديه باسمه هكذا أبو العز.. أبو هشام وزينب لا أحب أن أتركهما.. كيف تترك من يعلمك كل يوم آلاف الأحرف وليس حرفاً واحدا؟ لكن خوفا من رعد أبي.. أعود إلى البيت.. في يدي مازالت وريقات الدعاية التي كنت أوزعها على أهل الدائرة دعما للحريري صباح اليوم: انتخبوا الحريري.. صوت الغلابة!
** حزب التجمع الذي ينتمي إليه أبو العز هو الآن – الثمانينيات – في عصره الذهبي، يرتبط اسم الحزب في الإسكندرية باسم أبو العز.. التجمع يعني أبو العز.. أبو العز يعني التجمع.. في تلك الأوقات لم تكن صفة (يساري) تثير التهكم بعدْ! التجمع في الثمانينيات كانت له جريدة اسمها الأهالي.. كانت ساحرة! تكرهها الحكومة، تنفذ طبعاتها، يصدقها الناس! نعم لا تتعجبوا! كانت الناس تتخاطفها! هل مازالت هناك تلك الجريدة أم..؟ لا أعرف.. هل يسمع أحدكم بها؟ كانت الناس تنتظر صباح الأربعاء ليخطفوا الجريدة من على الأرصفة في حال ما لم تصادرها الحكومة هذا الأسبوع..
هل تألمت ياأبو هشام في لحظاتك الأخيرة؟! هل قاومت السرطان بنفس طريقتك في مقاومة النظام الظالم للغلابة طوال عقود؟! إذن لابد أن تنتصر! هل هزمك؟ معقول؟ إذن على الأقل.. لأي مدي يا أستاذي صمد عنادك أمام نداء الرحيل؟!
حزب التجمع؟! بعد بضع سنوات سمعت إحداهن تصحح: قصدك حزب التأمع!
** تتسع عيناي وأنا أسمع حكايات زينب عن زياراتها لأبو العز في السجن، وعن شنطة السجن التي كانت تعدها له بخبرة! ويتسارع نبض قلبي وأنا أسمع حكايات زينب عن كِلية أبو العز! نعم كِليته التي تبرع بها لأخيه مريض الفشل الكلوي! طبعاً، كيف لا يكون ذلك الفلاح مريضاً بالفشل الكلوي؟ كيف ستعرف إذن أنه مصري وأنه فلاح ابن فلاح؟! الفشل الكلوي بصمة الفلاحين! لم أكن وقتها أعرف ما تعنيه كلمة (الفشل الكلوي).. فقط أراه وهو يتناول أدويته في مكتبة عرابي.. هو المتبرع بكليته مطالب كذلك بتعاطي تلك الأدوية طوال العمر، يبتلعها ثم يذهب ليقضي يومه الشاق منذ الصباح وحتى بعد منتصف الليل يدور في الشوارع والحواري.. لا يحتاج لدعاية انتخابية فالناس تنتخبه رغم أنف الحكومة ورغم أنف التزوير.. لكنه صار مدمناً للقاء الناس في الحواري وعلى المقاهي، يعرف مشاكلهم من حارة إلى الحارة التي تليها، صاحب هذا الدكان وصاحبة فرش الخضار على ناصية شارع الإسكنراني وبواب عمارة المنوفي وو.. تأخرت في المكتبة.. خايفة أروّح البيت! أبو العز وزينب يغلقان المكتبة وفي طريق عودتهما إلى البيت يأخذاني في سيارتهما ال(لادا) ذات الصوت البشع! ليلقياني عند أقرب ناصية من الحارة التي أسكن بها، في حضني حافظة كتبي ومحاضراتي.. أستقر في السيارة وتدور النقاشات..
تلك الليلة نقاش حول التزوير، في ليلة أخرى نقاش حول هذا الشيء الذي تعرفت على وجوده حديثا في الكلية وحكيت لهما عنه: إنه شيء يدعى (جماعة الإخوان) والعائدون من أفغانستان! ترشح لي زينب اسم كتاب أقرأه، ويحكي أبو هشام شيئاً عن مخططاتهم لخلط الدين بالسياسة، وابتلاع السياسة! أفهم بعض ما يقول! لم أفهم وقتها كل شيء يا أبو هشام! فيما بعد ياأستاذي فهمت.. بل فهمت حتى النخاع!
"انتخابات اتحاد الطلبة امتى" أجيبه: مش عارفة، " لا.. لازم تعرفي وترشحي نفسك" أجيبه بسذاجة: أرشح نفسي وأطالب بإيه؟ رشحي نفسك وارفعي شعار: (ديمقراطية التعليم)، أجيبه بمزيد من السذاجة: يعني إيه ديمقراطية التعليم؟!
** " إيه اللي حصل معاكي في الكلية؟"، يأتيني سوؤال أبو هشام مختلطاً بأزيز التراام فأجيبه: اترفدت اسبوع! بس باروح كل يوم عشان ابويا ميعرفش، وكيل الكلية قرر يرفدنا احنا الاتنين اسبوع، أنا والطالب الاخواني! كان ذلك الطالب قد مزق (مجلة حائط) كنت كتبتها وعلقتها وكان فيها والشهادة لله عنوان مستفز (هذا هو تاريخ الإخوان المسلمون الأسود)! بقي معي أبو هشام ربما لأكثر من ساعة يوجهني كيف أتعامل مع الإخوان وماذا كان خطأي، وما الفرق بين معركة لأجل هدف بعيد وأخرى تستهلك الطاقة والوقت في صغائر،
يبتلع أدويته التي صار لزاما عليه تعاطيها حتى آخر العمر بعد أن صار بكلية واحدة.. كان ذلك النائب يستهلك وقته كله في الحواري مع الناس وهو بكلية واحدة.. ومرارة واحدة.. وقلب كبير، ثم يعود إلى مكتبة عرابي ليساعد زوجته في رص الكتب والبضاعة التي تستهلك هي كذلك في رصها بعد أن تعود من مدرستها، مُعلمتي الأولى! يذهب أبو هشام لإحضار هشام وهيثم وهند من مدرسة أو من تدريب ويعود بهم إلى البيت.. وهم أيضا في السيارة اللادا ذات الصوت البشع يستهلكونه في الاسئلة فمازال في جسده بقية طاقة.. وكما كنت استهلك البقية الباقية من طاقته وطاقة زينب في النقاش وهما لا يتململان.. كان أبناؤهم هشام وهيثم وهند يستنزفونهما سين وجيم.. يعنف أبو هشام ابنه إنما بصوت هادئ مهيب: إنت الغلطان، كان لازم تعتذر له بعد ما كسرت المضرب بتاعه، يحاول هيثم التذمر: انت الغلطان مفهوم؟
ماذا قلت منذ قليل؟ مجلة حائط؟ يااه.. يا أبو هشام... عرفت برحيلك من الفيسبوك!
** من معركة إلى معركة ومن برلمان إلى آخر ومن اعتقال بعد اعتقال ظل أبو العز يمارس العناد مع الحكومة.. ويصرخ واصفا جوع الغلابة.. ومن معركة مع الحكومة إلى معركة مع قيادات في حزبه قررت التخلي عن القضية، ومن معارك الحكومة والحزب إلى معارك مع قوى التخلف والرجعية والوهابية والبلادة تتربص به وتهدد حياته وحياة أسرته.. زوجته زينب التي علمتني أن (العقائد كثيرة) كانت تهاجمها امرأة ترتدي هذا الخمار القبيح ذات يوم في المكتبة لأن رأسها عارٍ وكانت زينب تتصدى وأبو هشام يقف كصخرة صلبة في المكتبة يهدئ تلك المرأة المختلة عقليا وإدراكيا وهي تهاجم زوجته! كان خبيراً في التعامل مع الناس.. كبيرهم وقزمهم! مقاتلاً كان ومعاركه كثيرة، ومن هذه المعركة وتلك إلى معارك مع الحياة ذاتها ومع الرزق الذي يشح مرة ويجيء أخرى، وهو مع زوجته شريكة النضال والكفاح يطلبان فقط الستر.. فقط الستر.. ما أرادا إلا الستر وكان بإمكانهما بشيء من التخلي أن يصبحا من الأثرياء الذين تضع لهم الحكومة حُراساً! لكنهما أصرا على نضال من أجل حلم العدالة العجيب لم يكتفيا بالإصابة بداءه بل راحا ينشران عدوى الحلم إلى كل من يقترب منهما أو يقتربا هما منه.. كنت صبية حين نقلا لي عدوى داءهما! فلاح ناضل اعتلال الجسد كما كان يناضل ضد حكومة فاسدة ونظام فاسد وثقافة تتعفن ومجتمع يتفسخ وو حتى جاء يوم عجيب
** يوم 25يناير كنت في القاهرة وأنا السكندرية الدائمة التي علمها أبو هشام وأبلة زينب السياسة في مؤسسة عرابي في حي محرم بك.. ذلك اليوم كنت في ميدان التحرير اتلفت حولي مندهشة من كثرة الناس وكان زوجي يقسم لي انه يوجد أكثر من ألفي شخص في شارع القصر العيني! وأنا أقول له لا لن أترك هنا ناحية عبد المنعم رياض، يبدو أنها ستكون مظاهرة كبيرة ويمكن نبقى خمس آلاف بني آدم ليه لأ، مفيش شي كتير على ربنا!، وعند العصر تعبت وقررت العودة إلى البيت، وبينما أتوجه نحو السيارة رأيت رجلا يقف على سطح سيارة عالية قبل مدخل طلعت حرب.. كان يمسك ميكروفونا ويلتف الناس حوله في دوائر حتى صاروا أعدادا غفيرة، كان أبو العز.. وبدا كأنه ليس ذلك الذي يقترب من السبعين بل بدا ذلك الذي كنت اسير خلفه عام 84 وهو يخطب في الناس بصوت جهوري، راح يحمس الناس للبقاء ويذكرهم بتونس وما فعله التونسيون: إحنا أكتر، إحنا نقدر، ودوائر الناس حوله تزيد..
عدت إلى البيت منهكة وبقي ذلك العجوز العنيد في ميدان التحرير.. وفي الليل شاهدت في التليفزيون ما يحدث بالميدان.. كان ذلك العجوز ذو الدماغ الناشفة هناك.. يوم 25يناير
** اعتل جسده بسبب شقى السنين ونضال السنين ومعارك السنين وظل يعارك حتى معركة انتخابات الرئاسة.. لكن يا أبو هشام هذه لم تكن معركة رئاسة.. هذه كانت لحظة الإخوان الكبرى.. لحظة الدواء المر الذي كان على مصر أن تتجرعه حتى تتقيأ تلك السموم.. تقولها لك تلميذتك الآن.. هذه ليست لحظتك.. تعرف يا أبو هشام؟ أنا سعيدة لأنك لم ترحل إلا بعد أن رأيت بأم عينك مصر تتقيأ هذا العفن.. عفن كان يملأ جوفها وهي تتخلص منه الآن رويداً رويدا.. وسوف تناضل مصر وتواصل حلمك الذي كنت تنثره حولك في قلوب وعقول الناس.. اطمئن.. حلم العدالة وإن يتوارى بعض الأيام ويشتد بعض الأبام.. لكن.. هذا حلم لا ينتهي.. تقول أسطورة روسية: الحلم آخر ما يموت
وداعاً أبو العز، يقولون في نعيك: رحل بعد صراع مع المرض..
لكن أستاذي.. أنا أعرف.. لم يكن المرض داءك بل كانت مصر هي الداءُ!