لا تفارقه المدينة أبداً.. إذ يحملها في أعماقه أينما حل.. وستبقي حاضرة علي الدوام في أعماله الإبداعية وتأملاته الخاصة إبراهيم عبد المجيد بمجرد أن تقع عيناك علي ملامحه المميزة، ووجهه الذي يشع بالطيبة والحلم والإبداع، ستنتقل علي الفور إلي رحاب الإسكندرية.. المدينة الكوزموبوليتانية الرائعة مهد الفلسفات والفنون.. مدينة اللذة والألم والجمال والعشق والقتل.. جنة الشعراء وجحيمهم في آن، ومقصد الروائيين والكتاب والفلاسفة عبر التاريخ. الإسكندرية مدينة روائية بالأساس.. ولهذا الحكم الذي يبدو متعسفاً مبرراته التي لا تقبل الجدل. فوق رمال الشواطئ مترامية الأطراف، وسط هذه الرحابة وهذا التوق الإنساني إلي الأبدية، نضجت التجربة الروائية الأولي في التاريخ.. استمدت حرارتها وسحرها الآسر من هذه البيئة، فوق هذه الدروب خطي «لوكيوس أبوليوس» أول روائي عرفته البشرية، ومؤسس أول ملحمة سردية استمدها من أسطورة «إيزيس» الربة المصرية الأكثر قداسة علي الإطلاق. إنها المدينة التي كتبت نفسها في رباعية لورانس داريل، وكانت سيدة علي أشعار قسطنطية كفافيس وكتابات فوستر وأناتول فرانس، كانت الإسكندرية دائماً مدينة خيالية رغم واقعيتها المفرطة، أخذت حقها من مخيلة الكتاب وأرواحهم المترعة بالجنون والنزق والحب والرغبة أكثر بكثير من طبيعتها وموقعها علي الأرض، حين يصير المكان بحد ذاته بطلاً وسيداً علي الجميع. إبراهيم عبدالمجيد واحد من هؤلاء، ارتضي أن يكون المتبتل الباقي علي قيد الحياة في محرابها الأروع، تراه يحمل المدينة في أعماقه أينما حل، لا يفارقه أبداً طيفها المسحور، فهو المضروب بسحر هذه الأماكن، وجلالها الرفيع، ومحبتها التي لا تنتهي. طيور العنبر، لا أحد ينام في الإسكندرية، بيت الياسمين، عتبات البهجة، برج العذراء، الصياد واليمام، المسافات، ليلة العشق والدم، في الصيف السابع والستين، مشاهد صغيرة حول سور كبير، سفن قديمة.. تتواصل فصول الملحمة الروائية عن مدينة الصبا الأول، وذكريات الشباب وبواكير الغرام الشفيف بعالم الأدب وعذاباته الهائلة، ليستمر إبراهيم عبدالمجيد حتي وقتنا هذا لا يريد أن ينأي عن مدينته الخالدة إلا في أعمال محدودة جداً، البلدة الأخري علي سبيل المثال، لكن تبقي الإسكندرية حاضرة بالرغم من كل شيء. الأمر الذي يطلق عليه إبراهيم عبدالمجيد لقب «غواية الإسكندرية» وهو كتاب تأملاته وأفكاره الخاصة وذكرياته في مدينته الأثيرة، كان الروائي بارعاً هذه المرة أيضاً إذ أصاب الهدف تماماً في وصف «الحالة السكندرية» فالغرام، بهذه المدينة لا ينتهي أبداً، والغواية تستقطب كل حواسك وأفكارك الكبري وهواجسك وأحلام اليقظة والمنام وحتي الرغائب الوحشية، التي تقبع بعيداً جداً في أعماق روحك. الإسكندرية هي المدينة التي لا ترحل عنك أبداً، ولا تفارقك علي الإطلاق، فأنت لن تجد أرضاً جديدة، ولا بحاراً أخري فالمدينة تتبعك أينما حللت.. هكذا يقول أحد عشاقها الكبار.