لأن قوانين العاملين فى الدولة والتأمينات والمعاشات تعامل أصحاب المؤهلات بنظرة واحدة، فإن غالبية الأطباء؛ الذين تستغرق دراستهم الجامعية وقتا أطول من غيرها، لا يتمون ستّا وثلاثين سنة ميلادية كاملة فى الخدمة الوظيفية. ومن هنا فكرت فى شراء مدة خدمة سابقة للحصول على معاش كامل بإذن الله، ومع بداية خصم الأقساط من المرتب فوجئت بأن الموظف المسئول عن إعداد الاستمارات احتسب المدة المطلوبة أربع سنوات بدلا من ثلاث، فسعيت إلى هيئة التأمينات لتصحيح الخطأ.
وكان الرد العجيب: المعلومات التى تبرمج فى الكمبيوتر لا يمكن تصحيحها. سألتهم : أليست هذه مستندات واضحة ؟ وجاء الرد الأكثر عجبا : نعم ، لكن برنامج الكمبيوتر الخاص بنا لا يتضمن إمكانية التصحيح.
هذا هو بالضبط حال كل أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية. لا يمكنها تعديل المعلومات عن الأشخاص والأحداث. إما لأنها لا تعترف بالخطأ ، أو لا تعرف أنها قد تخطئ. وبالتالى لم تضع الآليات التى تضمن تصحيح الخطأ.
فلسفة الاعتماذ على مافى الكتب الصفراء من معلومات عفا عليها الزمن ليس حكرا على الاتجاهات التى يهاجمها الدكتور خالد منتصر فقط. بل كل مؤسسة فى الدولة المصرية لها كتبها الصفراء التى تلتصق بالعقول والأفئدة.
ألم تر أنهم كلما أرادوا تحديث الاقتصاد استعانوا بالأسماء القديمة التى لها كل الإجلال والاحترام ؟ إن المسئولين لا يعرفون شيئا عن العقول الرائعة التى تقدم حلولا عبقرية. و كلما احتاجوا رئيسا للوزراء لم يجدوا فى تلافيف أمخاخهم من بين تسعين مليون مصرى سوى واحد، متّعه الله بالصحة والعافية.
أتخيل أن أجهزة الأمن ، مدنية أو عسكرية، تصنّف كل مصرى منذ نشأته فى خانة معينة، هذا إخوانى وذاك يسارى وثالث ناصرى وهكذا، وتمضى السنون وتتطور أفكار الشخص وتتغير نظرته للتاريخ ويختلف تحليله للأحداث ، وقد ينتقل من معسكر فكرى أو سياسى إلى غيره، أو حتى إلى نقيضه. و لا يتغير تصنيفه لدى أجهزة الأمن ؛ مدنية أو عسكرية.
ويموت الشخص، فينتقل التصنيف إلى ذريّته على أساس أن العرق دساس. كأن الإخوانى القديم يورّث لأبنائه وأحفاده الدوسيه الخاص به فى دواليب أجهزة الأمن، و كلما تقدم أحدهم بعد عشرات السنين، لعملٍ أو رُشّح لوظيفة، وكتب فى (وثيقة التعارف) اسم أبيه أو جده ، يضئ النور الأحمر و يضرب جرس الإنذار فى الكمبيوتر العتيق الذى يحوى المعلومات المقدسة التى لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها . و لا يدرى حضرة الكمبيوتر أن سور برلين هٌدم، وأن الاتحاد السوفييتى تفكّك، وأن الحرب العالمية الثانية انتهت. قد يكون أحد اسباب القصور فى مكافحة الإرهاب أن أجهزتنا الأمنية تعتمد على معلومات قديمة وبالتالى تتجه أنظارها إلى الاتجاه الخطأ.
كلامى هذا ليس سفسطة للتسالى ، لأننى شخصيا عشت تجربة أو تجارب فى هذا المجال ، بخلاف تجربتى مع هيئة التأمينات.
من نِعم الله سبحانه و تعالى علىّ أن تتلمذت منذ أربعين عاما على الحاج محمود عبية رحمه الله، عالم وعابد من الجيل الأول للإخوان المسلمين، وبعد وفاته أدركتُ أن تنظيم الجماعة القائم يختلف فى أساليبه وأهدافه عما تعلمته من الشيخ الراحل، فابتعدت عنهم منذ عشرين سنة، و بقى معى بحمد الله ما تعلمته من علوم الدين. و كثيرا ما عارضتهم وانتقدتهم فى العديد من المقالات والمناسبات، و لم يعد فى ذهنى مثقال ذرة من التلاقى مع منهجهم التكتيكى أو الاستراتيجى.
ومع أن أحدا من الذين اقتحموا مقرات أمن الدولة لم يحضر لى الدوسيه الخاص بى ، لأنى لست ناشطا مشهورا أو منكورا، فإننى أعرف أن ذلك الدوسيه مازال يضعنى فى التصنيف القديم منذ أربعين عاما.
فقد استدعيت إلى المخابرات الحربية أثناء خدمتى بالقوات المسلحة ، وسألنى الذى حقق معى : ما صلتك بالمدعو محمود عبيه؟ . و كدت أضحك و أنا أرى رد فعله عندما أجبته : إن محمود عبيه مات منذ خمس سنوات. يبدو أنه فهم من الأوراق التى بين يديه أننى أقضى الأجازات من الوحدة العسكرية بين يدى الرجل.
وبعدها بسنوات طويلة اشتريت شقة سكنية من أحد ضباط الشرطة فى مساكن الضباط، وأُرسل اسمى لأمن الدولة للاستعلام عنى ، فقد أكون إرهابيا متنكرا وكلفت بشراء الشقة لأغراض خبيثة، ولولا أن ضابط أمن الدولة جزاه الله خيرا يعرفنى شخصيا، و لقيته فى مناسبات اجتماعية، لضاعت الشقة التى آثرت أن أبيعها بعد ذلك بأقل من قيمتها.
لقد أخبرنى بأنه متأكد من أن الصلة بينى وبين التنظيم كالصلة بين الذئب و دم ابن يعقوب. لكنه أيضا لا يملك أن يصحح المعلومات القديمة ، تماما مثل كمبيوتر التأمينات.
و بعد خمسة عشر عاما تقدمت لصندوق التعاون الإفريقى بوزارة الخارجية للعمل بإحدى الدول الإفريقية، وفى المقابله مع سعادة السفير المهذبة التى أعجبتها لغتى الإنجليزية، رشحتنى للعمل بجنوب السودان. و أعددت الشهادات والمستندات، و تم توقيع الكشف الطبى، حتى إذا كنت على شفا حفرة من السفر؛ إذا بالموظف المسئول بالصندوق يعتذر لى بسبب رفض أجهزة الأمن. سألته : أى أجهزة أمن؟ قال : أمن الدولة و الأمن القومى و المخابرات، يقصد الحربية. و تساءلت مندهشا: يااااااه ، لسه فاكرين؟
و مرّت السنون، و شاب ما بقى من شّعرى، وقاربت على الخروج للمعاش ، و قامت ثورة 25 يناير ، وبعدها ثورة 30 يونيه، وكبر الأولاد، وتخرّجوا، وتقدم أحدهم لأداء الخدمة العسكرية ، وفرح بترشيحه ضابط احتياط ، ثم فوجئ باستبعاده، لأن أباه، الذى لا تعرفه استوديوهات الفضائيات، عرف واحدا من الإخوان المسلمين منذ أربعين سنة.
يا قوم ، أما آن لكم أن تحدّثوا معلوماتكم أنتم وهيئة التأمينات؟