ثماني شخصيات مع ثمانية أطفال مكفوفين من أربع مدارس مختلفة يتناولون العشاء في الظلام الحالك... دعوة مثيرة للفضول وللاهتمام! كانت هذه هي الدعوة التي تلقيتها من الجمعية المصرية لدارسي العلوم الصحية وهي دعوة محرضة علي فهم حالة إنسانية، نراها، لكننا لا نشعر بها. أعجبتني الفكرة مجردة دون الخوض حتي في تفاصيل ومعلومات كثيرة، وعندما حضرت إلي برج القاهرة - مكان اللقاء، شاهدت وشعرت بمعني أن يهب الله إنساناً ما البصيرة وينيرها. هؤلاء الشباب الأربعة عشر من أطباء وطبيبات المستقبل - أعضاء الجمعية التي تملك جميع الحقوق الملكية لهذه الفكرة وتطبيقها في مصر وتحديداً فإن صاحب الفكرة هو الطبيب الشاب أيمن وفيق- ومنظمو هذا الحدث الإنساني الراقي شيء يفرح القلب ويحرضه علي التفاؤل في هذا المجتمع الذي تغيب فيه يوم بعد يوم كل أغلب معطيات التفاؤل والاستبشار بالمستقبل. رغم أن أهداف هذا المشروع الذي تتبناه الجمعية واضح، حيث إن الدعوة للعشاء في الظلام هي فرصة عملية لمعايشة الطفل المكفوفي أبسط تفاصيله اليومية البديهية البسيطة وهي تناول الطعام، وفي الوقت ذاته نشر الوعي لحقوق هؤلاء الأطفال ذوي الإعاقة البصرية وتوضيح كم المعوقات والصعوبات التي يواجهونها للحصول أو حتي التمتع بأبسط حقوقهم الاجتماعية مثل التعليم والعمل والمواصلات العامة واللعب، أو حتي التمتع بحقه في معاملة إنسانية كريمة علي أنه مواطن ذي أهلية ولديه طاقات وقدرات قد تكون بلا حدود وعدم اختصار دوره في الحياة أو تلخيصه كونه فاقد البصر ولا يستحق إلا الشفقة - تلك النظرة الغبية التي يمارسها المجتمع ونقع جميعاً في فخ « التعاطف السلبي « الذي لا يفيد أي ذو إعاقة، لكنه يعطله ويؤذيه. «عشاء في الظلام».. كم أن الفكرة النظرية مدهشة ورائعة وتستحق التجربة!! أما التجربة ذاتها فهي شديدة الصعوبة للحكي عنها، ولكن يكفي أنك تشعر بشعور أراهنك بأنك لن تنساه، ستحفر في ذاكرتك وتخلق لديك معاني ربما لم تكن واعياً لها من قبل. وإن حكيت لك عن بعض ملامح تلك التجربة، فعن من أحكي؟ سأحكي لكم عن عباس... عباس كان أحد أبطال هذه التجربة، هو يد الأمان التي امتدت لكل ضيف علي باب ذلك المطعم الفاخر الذي لم نره ولم نتبين حتي وصفه أو موقعه، كل ما نعرفه أننا في مطعم كبار الزوار في البرج، ولم يسعفني خيالي حتي عن رسم صورة للمكان، لم أركز إلا في يد عباس التي اصطحبتني واصطحبت ستة عشر ضيفاً ليجلس كل منا علي مقعده، عباس الشاب المكفوفي المبهج الذي حفظنا وحفظ اسماءنا عن ظهر قلب، حفظ مواقعنا علي المائدة ،يأخذ منا الطلبات ويحفظها، أما اختيارنا للأكل فكان بفضل هؤلاء الأطفال الصغار الذين قرأوا لنا قائمة الطعام المكتوبة بطريقة بريل، الأطفال وعباس هم الذين قادونا في ذلك العشاء المظلم، لم يكن هناك فرق بين أن نفتح أعيننا أم نغمضها، فالحالة سواء... لا نري شيئاً علي الإطلاق. المشهد قد يبدو مثيراُ للفضول في بدايته، ولكن مع مرور الوقت أصبح الأمر محرضاً علي التفكير وفهم المعني أكثر. عباس يدخل ويخرج من المطعم ويأتي بالأكل لكل منا، يضعه بمنتهي الحرفية، دون أن يسكب طبقاً أو يوقع كوباً، لكننا - نحن الضيوف - المبصرين ارتكبنا حماقات كثيرة، لم نتمكن من الأكل إلا بعد إمساكه بأيدينا، لم يفلح معنا استخدام الشوكة والسكين واتباع قواعد الاتيكيت في مطعم كبار الزوار، وأخذنا نأكل مرة بأيدينا ونتبادل الضحك علي حالنا ويشاركنا الأطفال ببهجتهم وقصصهم ومغامراتهم ومشاغباتهم في المدرسة، كنا ساخرين من أنفسنا ومنشغلين بورطتنا في عدم القدرة علي الأكل بشكل لائق أما الأطفال فكانوا مستمتعين ومتجاوزين تلك المسألة، فلم نسمع تعليقاً واحداً من أحمد أو أبانوب أو بدوي أو يارا أو هاجر أو نورهان عن عدم قدرتهم علي تناول الطعام، لم يطلب أحدهم المساعدة، فقط كانوا يتحدثون بتلقائية ويقولون النكت وأبهجتنا الفنانة سيمون بغنائها وخفة ظلها وأخذنا نغني جميعاً بمنتهي الحرية والتلقائية ولا نشاهد ولا نري بعضنا البعض، لكننا نشعر بدفء الحالة رغم صعوباتها. لم نشعر بمرور ثلاث ساعات علي الإطلاق، يتحرك فيها عباس، يقدم لنا الطعام، ويرفع الأطباق الفارغة ويقدم لنا المشروبات ثم يأتي بالحلو، وينتهي العشاء فيأخذنا عباس ضيفاً تلو الآخر ليخرجنا من المكان بمنتهي الود. المدهش حقاً... أن عباس ذلك الشاب المثقف الواعي المحترف لأصول الفندقية، لم يعمل بهذه المهنة من قبل، لكنه يعمل في إدارة العلاقات العامة بجمعية فجر التنوير - إحدي جمعيات خدمة المكفوفين في مصر - وخاض هذه التجربة متطوعاً ومغامراً ومتحدياً. وقد نجح عباس باقتدار ونجحت فكرة شباب «الجمعية المصرية لدارسي العلوم الصحية»، الشباب الذين قاموا علي تنفيذ تجربة أتمني أن تعمم في بعض مطاعم مصر، ويخوض الناس هذه التجربة «عشاء في الظلام»، لا من قبيل كسر روتين الحياة أو اعتبارها فكرة ومغامرة مجنونة، ولكن لأننا - كبني آدمين - لا نشعر بمعني الشيء إلا حينما نجربه ونعيشه ونتعايش معه، فلنجرب أن نعطل حاسة أساسية مثل البصر لمدة ساعتين، بم سنشعر؟ وماذا نفهم ونعي؟ تأثير التجربة قد يختلف من شخص إلي آخر ولكن المؤكد أنك ستدرك معني قد يتفق عليه الكثيرون وهو أننا ننسي تدريب بصائرنا... نعم تدريب البصيرة علي فهم الآخر أمر نوقعه من حسابات حياتنا، نتجاور مع الآخر ولا نشعر بوجوده أحياناً، نسرع ونتصارع في الحكم علي الآخر دون تفهم حقيقي، ندعي أننا نفهم الآخر ونحن لا نعرف عنه الكثير، نتصور أننا نشعر ونتعاطف مع الآخر ونحن لم نجرب أن نكون في موقفه ولم نتفهم من أين تأتي حقيقة مشاعره؟. إن روعة التجربة لو تم تعميمها في بعض المطاعم ولو مرة في الأسبوع، بالاستعانة بشباب رائعين مثل عباس، سيكون أفضل درس لإنارة بصائر المبصرين، ليعلموا أن المكفوفي شخص ذو قدرات عالية، قدرات بلا حدود لو سمحنا له ولقدراته بالانطلاق لا بالتقييد والكبت والقهر. كم استوقفتني كلمات شباب الجمعية، الأطباء الرائعون، وهم يقولون ويحكون عن جمعيتهم وأفكارهم وأهدافهم: «ممكن تكون طبيب كويس، بس ينقصك شيء مهم وهو إحساسك وفهمك الحقيقي والعميق للمريض ولمشاعره، إللي إحنا بنعمله ده مش بس وسيلة لتطوير مهارات الطب والطبيب المصري، لكن محاولة لتغيير مفاهيم مهمة في المجتمع، وتغيير المجتمع مهمة كل مواطن... هؤلاء الشباب الرائعون «المواطنون الصالحون» بدأوا بفكرة، والفكرة المبتكرة الصادقة قد تولد نتائج مبهرة، وتحقق خدمة حقيقية... وأهم خدمة قدمتها جمعية دارسي العلوم الصحية بهذا المشروع «عشاء في الظلام» أن تشجع الناس - كل الناس - علي فهم رسالة شديدة البساطة وهي أن الحياة لن تستوي وأن إنسانيتنا لن تكتمل إلا بأن نمد جميعاً أيادينا إلي بعضنا البعض. أليست بسيطة؟!