في فيلم سوق المتعة، طرح السيناريست المبدع وحيد حامد، والمخرج وحيد سيف، تساؤلًا غاية في العمق: هل يستطيع الإنسان بعد أن تطبَّع مع العبودية أن يعيش حرًا، أو بالأحرى أن يعيش الحرية؟ العقدة الدرامية للفيلم، أن البطل أحمد حبيب، خرج من السجن بعد سنوات طويلة، متآكل الروح، محطم الوجدان، غير قادر على التعايش مع السموات المفتوحة، فقد أصبح سجنه، في داخله، يسكن أعماقه، يلاحقه أينما توجه.. وفيما هو يتخبط بجدران الحياة، ويتعثر فيسقط سقطات مؤلمة، يلتقي لأول مرة، في حمام شعبي، برسول عن العصابة التي ألصقت به التهمة زورًا، فيبلغه بأن قرارًا صدر بتسديد حساب ما أهدر من عمره، والثمن سبعة ملايين جنيه.. ذلك بشرط واحد، وهو أن لا يسأل عن ملابسات دخوله السجن، ونشاط العصابة. البطل الذي جسد دوره محمود عبدالعزيز، لم يبدد الفرصة، فمن ذا الذي يرفض سبعة ملايين من البنكنوت، بعد النوم على "البُرش"؟.. فليأكل الجحيم كل التساؤلات، ضاع ما ضاع، وعسى أن أحظى اليوم، ببعض مما فاتني من متاع الحياة الدنيا. لكن.. للمفارقة، لم يستطع أحمد حبيب اللحاق بالدنيا الغاربة، فالمال الوفير، لم يوفر له الحالة الشعورية والمزاجية، القادرة على الاستمتاع بالحياة.. لم يستسغ الحياة بعيدًا عما تآلف معه.. فإذا به يستقدم عتاة المجرمين، زملاء الزنزانة، وكبار اللصوص للعيش معه، ويتلذذ بتعذيبهم له، وسخريتهم منه، ويرضخ ذليلا سعيدًا، لأوامرهم بإجباره على تنظيف الحمامات، في بيته الفاخر، ومن ثم «يركب الهوا»! كان تطبع من العبودية، وصار كما يقول شاعرنا المتنبي: كمن في فمه مرض، وأصبح يجد المرارة في مذاق الماء الزلال، ضاق به الفضاء الرحب، وتاق إلى العودة إلى القمقم المغلق، ورئتاه اعتلتا فصارتا غير قادرتين، على استنشاق الأكسجين.. كان مفزوعًا كوليد خرج لتوه من رحم أمه، فاستقبل الدنيا بالصراخ. المتعة التي وفرتها له الملايين، سرقتها من نفسه.. نفسه المتشظية المفتتة، حتى انتهى الفيلم بمشهد عبقري، يقرر فيه البطل أن يثأر لعمره المهدر، فيطلب مقابلة رئيس العصابة، متجاوزًا كل التحذيرات بأنه يعرض نفسه للموت، وما أن يرى الرجل الكبير، حتى يحكم يديه على خُنّاقه، ويقفز به من بناية شاهقة.. ليموت الجاني والضحية معًا. الذين حرموا من الحرية لا يمكن أن يكونوا أحرارًا.. هذه حقيقة تؤكدها دراسات علمي النفس والاجتماع، وهناك دراسات في علم الطيور تكشف عن أن الأفراخ التي تفقس وتكبر في الأسر، لا تستطيع التحليق حال إطلاقها، ومنها أنواع تخاف من أن تجرب أجنحتها، فتلوذ بأشجار كثيفة، فتختفي بين فروعها، حتى تموت جوعًا وعطشا. ولأن الشيء بالشيء يذكرُ، فإن المقاربة المنطقية، تدعو إلى تأمل سلوك قيادات مكتب الإرشاد، فهم بلا استثناء، جربوا مرارة سلب الحرية، ومنهم من أفنى عمره خلف القضبان.. والراجح أنهم تأقلموا على هذه الحياة، وتعايشوا وتطبعوا، مع التنكيل الذي مورس ضدهم. هنا يجب أن نعود إلى كلام الدكتورة منال عمر، استشارية الطب النفسي، بشأن تحول الرئيس من دور الضحية إلى دور الجلاد، ويبدو أن علينا أن نفكر بعض الشيء، في متلازمة استوكهولم، وما تسببه من أعراض تصيب المرضى بها، بدءًا من الافتتان بالجلاد، وصولًا إلى محاكاة سلوكه، لا شعوريًا. إذن.. كيف يا ترى تمكن الرئيس بعد خروجه من السجن أن يسير على السجادة الحمراء؟ أية أعصاب تلك التي تستطيع أن تتحمل أن يقضي الرجل حاجته، في حمام القصر الجمهوري، وما أدراك ما القصر الجمهوري، بعد حمامات السجون القذرة؟ ما مدى قدرة الرئيس إذا كان يعاني أعراضًا نفسية ما، بسبب السجن والملاحقات الأمنية، على إدارة مصر؟ وهل بوسع "الأهل والعشيرة" أن يتفهموا قيمة الحرية؟ هذه تساؤلات بالغة الإلحاح والغموض في آن، لكن سؤالًا آخر، يبقى الأكثر أهمية: هل يستطيعون منح مصر حريتها؟ ليس الأمر مستحيلا، إذا تسامت أرواحهم، وبلغت مبلغ مانديلا من التسامح والنقاء.. لكن هذا ال «ليس مستحيلًا» يواجه بسؤال آخر يبدو الرد عليه بالإيجاب مستحيلا: هل في جماعتهم من يقترب من قامة مانديلا؟