إذا كان هذا رأي فنان كبير في عمل المرأة بالفن فماذا ترك لشيوخ التكفير؟! عادل إمام الفنانون في كل بلاد العالم المحترمة، من المفترض أنهم أول من يحمل لواء التنوير، وفي كل المجتمعات يتصدي الفنانون مع المثقفين لكل مظاهر التخلف والجهل، بوعي يسبق وعي العامة بتعاطف وحنان من يرغب في توعية مجتمعه وتنويره، ودون تعال واستخفاف بالناس.. يشبه الفنان في هذه الحالة لاعب السيرك الذي يسير علي حبل مرهق، فهو يخشي الانسياق وراء دوامة مراعاة مشاعر الناس وقيمهم ووعيهم وذوقهم من جهة، ومن جهة أخري يخشي الإبعاد واتهامات التعالي والغرور والبعد عن الناس وعن قيمهم وأخلاقهم وذوقهم.. حبل من التوازنات يحتاج فنانا ذكيا واعيا يبذل مجهودا في فهم طبيعة مجتمعه دون أن يقدم أي تنازلات في فنه أو حياته تخصم من قيمته ووعيه وثقافته وأخلاقه. الحقيقة التي أصبحت واضحة وضوح الشمس، هي أن الفنانين في مصر يتقدمون علي كل فناني الدول المحترمة بأنهم يسيرون خلف وعي الناس.. يجارونهم بنفاق مستفز في رؤيتهم للفن والفنانين والوسط الفني، ومن جهة أخري ينافقون النظام ورجاله مستفزين بذلك مشاعر جمهورهم المقهور.. حالة ازدواجية غريبة تجبرنا جميعا علي البحث عن علاج نفسي لهؤلاء الفنانين، وتجبر الناس علي عدم احترام الفنانين بشكل عام، ليتأكد توصيفهم لهم بأنهم مجرد بهلوانات في سيرك.. يرتدون «بدل واسعة أوي» عليهم - ويصرفون نظر الجمهور عن حقيقتهم ب «شقلبة» أو «زغزغة» أو أي حركة بهلوانية لا يعرفون سرها، لكنهم يعرفون جيدا الغرض منها. عادل إمام قال في حواره بأخبار النجوم: ماعندناش ستات تشتغل في الفن، وسعد الصغير قال في حواره ب«الدستور»: أرفض دخول أبنائي الوسط الفني، فأنا أفضل إني أجعل ابني يحترف كرة القدم أحسن ما أعلمه الغناء، ثم تساءل: مواهب إيه؟! ده بدل ما اعمل مسابقة لتحفيظ القرآن الكريم؟! مع الفارق الكبير بين التجربتين «تجربة عادل وتجربة سعد»، إلا أن أكثر من نقطة تشابه تجمعهما سويا في جملة مفيدة، فالاثنان مؤيدان عظيمان للنظام.. عادل إمام في كل أحاديثه وحواراته الصحفية والتليفزيوينة، وسعد الصغير بلافتة وضعها عام 2006 أمام كازينو الليل الذي كان يغني فيه معلنا فيها تأييده للرئيس لفترة خامسة! والاثنان يرفضان دخول بناتهما الوسط الفني.. عادل يعلن لأول مرة رفضه عمل ابنته بالتمثيل، وسعد زايد علي عادل إمام ورفض عمل ابنته وابنه بالمرة.. والاثنان يحاولان بشتي الطرق رغم فجاجة نفاقهما للنظام أن «يضحكوا» علي الجمهور «بشوية دروشة مرة وكلمتين فارغين مرة» في حالة شيزوفرينيا «ازدواجية» مزعجة، فعادل إمام الذي لم يترك ممثلة في فيلم من أفلامه لم يمطرها بقبلاته - كما قال الناقد الكبير طارق الشناوي وكما نشاهد نحن في أفلامه - يرفض عمل ابنته في الفن، وسعد الصغير في كليبه الفاضح الفج الذي انتشر منذ فترة مع الراقصة، يضع «بوستر» عليه صورته مكتوب فوقها «محتاجلك يارب»! صار الزعيم والفنان العادي متساويين إذن، بل واشترك الاثنان في احتقار العمل الفني مثلهما مثل قطاع عريض من جمهورهما. يكشف الله الناس سريعا.. مهما اشتد الخلاف عليهم، ومهما اشتعلت حدة حملات الهجوم، فإن الفنان نفسه يعلم أن لا أحد يمكن أن يسقطه في نظر الناس سوي نفسه، ولا أحد قادر علي أن يصغره في عين جمهوره سوي مواقفه وتصرفاته ولسانه. حافظ عادل إمام علي علاقته الدافئة بالنظام، وحافظ في الوقت نفسه علي علاقته الرائعة بجمهوره.. وضعه النظام علي رأس قائمة الفنانين، فصار زعيمهم، ووضعه الناس علي رأسهم، فصار نجمهم الأفضل.. وحافظ الجميع علي احترام نجاحه واستمراريته. اختار الناس عادل إمام وأقبلوا عليه، واختار الفنان أن يدير وجهه لهم. لا يوجد فنانة أو فنان من أولئك الذين أصبحوا نجوما الآن لم يتمن سرا وعلانية في كل لقاءاته التليفزيونية والصحفية أن يقف أمام عادل إمام ولو في مشهد واحد «وراجعوا معي الأرشيف». ولا يوجد فنان الآن من كل من راجعتم أرشيفهم إلا ويتمني أن لا يضعه الله في اختبار أن يعرض عليه عادل إمام دورا في فيلم من أفلامه، والتجربة أثبتت أن نجمين شابين من أهم نجوم السينما المصرية حاليا لم يقبلا مشاركته بطولة فيلمه المتعثر «فرقة ناجي عطالله»، بينما قبله ابنه محمد وأحمد هيثم زكي. الفنانون باتوا لا يثقون في مسألة زعامة عادل إمام، فالفن شخصيا لا يعترف بالزعامة.. الزعامة للسياسين فقط، أما الفن فهو أرقي وأجمل من فكرة الزعامة، والجمهور الذي أدار له عادل إمام ظهره في حواراته وأحاديثه المنافية لذوق الجمهور وإحساسه، سخر منه ومن زعامته ومن كل ما قدمه من أفلام.. الرائعة منها والرديئة، في حالة كفر جماعي بفنان لم تحدث في تاريخنا الفني كله.. «راجع آراء الناس علي كل تصريح ينطق به الزعيم!». ثم جاء دور عادل إمام نفسه ليكفر بمبادئه السابقة وآرائه التي أمطرنا بها وصدع بها رؤوسنا عن التنوير ومحاربة الإرهاب والجهل والتخلف، ليقول بمنتهي الصراحة التي عبرت - لأول مرة - عما بداخله بصدق - احترمته - وإن لم أبادل من نطق به الاحترام - أقصد في وجهة النظر - خصوصا عندما قال إن «ماعندوش بنات يشتغلوا في الفن». بالله مثل هذا الفنان «المستنير» الذي هاجم - كما ادعي - طيور ظلام الفن والمجتمع والناس، وسخف من وجهات نظر كل الرجعيين، ووقفنا بجانبه في كل معاركه التنويرية ضد كل من يحاربون الفن ويعتقدون أن نجومه ليسوا أكثر من مجرد ممثلة «قليلة الأدب» وفنان «قليل الأدب برضه» علي الشاشة وخلفها.. كيف لهذا الفنان أن يروج لنفس أفكار من كان يهاجمهم بشدة؟! ماذا ترك الفنان الكبير لشيوخ التكفير الذين هاجمهم في كل أحاديثه. أعتقد أن عادل إمام ولأول مرة يتحدث من قلبه، ويتحدث بصدق مطلق دون توجه ودون اعتبار لوجهة النظر الرسمية، وهذه نقطة تحسب لمدير الحوار السيناريست والصحفي الزميل حازم الحديدي.. عادل إمام لم يكن في هذه المرة ينافق أو يوافق أو يحاول التوافق مع وجهة النظر الرسمية.. إنه لأول مرة يخلع ثوب الزعيم دون تعال كان يمارسه باستفزاز علي وعي المشاهد العادي وعلي وعي الجميع.. دون تنظير ودون انتقاد للآخرين.. يبدو هذه المرة كالمواطن العادي.. بنفس وعيه ونفس ثقافته البسيطة مشيها البسيطة- ونفس أفكاره عن الفن والفنانين.. عاد عادل إمام كما بدأ مجرد فنان غلبان.. لا يملك سوي أفكار ريفية رجعية- والريفيون الرائعون أصلا أنضج كثيرا من هذه الأفكار- ومتخلفة عن رقي الفنان وتحضره وتعاليه علي كل من حوله.. مثله في ذلك مثل سعد الصغير.. لكن الفارق بينهما أن سعد كان واضحا من البداية، فكان «قميص» الفنان الشعبي العادي مناسبا تماما، بينما حاول عادل إمام أن «يظبط» القميص و«يقيفه» علي مقياس الزعيم المثقف المستنير الذي لا يناسبه، لكنه في النهاية اقتنع بارتداء «قميص» يناسب «مقاسه» ويتطابق - تماما - مع قميص سعد الصغير.. كلنا يحن إلي أصله في النهاية. الفنان لا يجب أن يحمل وعيا يتناسب مع وعي جمهوره، بل إن جماله في أن يكون أكثر وعيا وثقافة وشفافية، فقد خلق الله الفنان كي يفيقنا ويوقظنا ويسحرنا وينعشنا ويحفزنا لمواجهة سخافات واقعنا، بطاقة روحية ننهل منها لنكمل المشوار، لكن يبدو أن البعض مرحب جدا بلعب دور الفنان والجمهور معا.. ونحن موافقون علي التجاوب، لو اعترف هذا الفنان بأنه لم يعد زعيما، وأنه مثله مثل أي فنان، بل مثله مثل أي مواطن عادي في هذا المجتمع.. عشان نخلص.