«عمر مكرم» بُنى على أنقاض جامع «العبيط» يُروى أنه أواخر عهد السلطان المؤيد شيخ انتبهت بنات القاهرة إلى أزمة حرجة كادت تدفعهن إلى حل شعورهن فى ثورة فريدة على مر التاريخ، أزمة لم يكن لها علاقة بهتك العرض أو جور الحكام أو شظف العيش أو حتى مرض الطاعون الذى كان يفتك بالناس، إنما ترجع إلى غرابة شباب القاهرة، أو بمعنى أوضح حالة البرودة الغريبة التى جعلتهم يزهدون فى الزواج فترة طويلة.
وبينما بنات القاهرة يحاولن بلا طائل كتم حسرتهن والبحث عن مخرج مناسب لأزمتهن هبط عليهن أحد دراويش القاهرة بوصفة مفادها أن البنت التى تدخل من الباب الأمامى لجامع الأمير المملوكى فخر الدين عبد الغنى وتخرج من بابه الخلفى فى أثناء صلاة الجمعة سترزق بالزوج المناسب بإذن الله.
هذه الفتوى الغريبة كانت أشبه بقشة فى بحر العنوسة الكئيب، وبناء عليها احتشدت بنات القاهرة كل يوم جمعة فى جامع الأمير المملوكى، يستمعن بخشوع والأدق بقلق للخطبة، وبمجرد أن تبدأ الصلاة وبالتحديد فى أثناء السجدة الأولى يندفعن فوق رؤوس المصلين، ويخرجن فرحات، وربما مزغردات من الباب الخلفى للجامع، ومع تكرار اندفاعهن ذهب الاسم الأصلى للجامع للأبد، وصار الجامع الذى يقع فى شارع بورسعيد حتى اليوم يعرف باسم جامع البنات.
حكاية من عشرات الحكايات التى يرويها حمدى أبو جليل فى كتابه الممتع «القاهرة.. جوامع وحكايات»، الذى يمكن اعتباره الجزء الثانى من مشروع أبوجليل ل«وصف القاهرة» بعد الجزء الأول الذى كان يحكى فيه عن الشوارع.
يحكى أبو جليل حكاية ما يقرب من 35 مسجدا من أقدم وأشهر مساجد القاهرة، لا يهتم كثيرا بالتفاصيل المعمارية فى المساجد، بل بحكايات بانيها، وربما يكون ذلك سر اختلاف كتابه وأهميته. يعتمد أبو جليل على مراجع تاريخية كثيرة ويقدم معلومات موثقة عن تاريخ المساجد، لكن يظل للحكايات الشفهية التى ينقلها بريقها الخاص، والكتاب كما يأمل مؤلفه يحاول التعريف تاريخيًّا ومعماريًّا بعدد من الجوامع، تمثل وتلخص مجمل مراحل تطور واتساع وحكم وتاريخ مدينة القاهرة منذ تأسيسها فى الفسطاط حتى العصر الحديث.
منذ البداية كان الجامع إعلانًا لشرعية حكم المدينة والبلاد عمومًا، جامع عمرو أعلن فتح مصر وانتزاعها للأبد من التاج الرومانى، وجامع ابن طولون رفع استقلالها عن الخلافة العباسية لأول مرة، وجامع الأزهر أعلن الخلافة الفاطمية فى مصر والمشرق العربى عمومًا، لذا كان من المنطقى أن يكون بناء المسجد من أول اهتمامات الوالى الجديد، المسجد يخلد اسمه ويثبت حكمه، يجب أن يكون مختلفًا من حيث الزخرفة وحتى أسلوب البناء، فهو تجسيد لاختلاف الحاكم نفسه، كما أنها كانت أيضا الوسيلة الوحيدة لبث رسائل الحاكم وقوانينه وأوامره ومؤامراته فى كثير من الأحيان باعتبارها وسيلة الإعلام الوحيدة.
وبقدر غرابة الحاكم كانت غرابة المبانى، فيروى أبو جليل أن منارة مسجد ابن طولون التى تعد من أشهر وأغرب منارات المساجد كانت من تصميم ابن طولون نفسه، حيث أخذ فرخًا من الورق المقوى «الكرتون» وراح يعبث به ويديره مثل القرطاس، فخرج بعضه وبقى بعضه فى يده، فظن البناؤون أنه يلعب وعندما لاحظ اندهاشهم قال: «اصنعوا المنارة على هذا المثال»، وابن طولون كان يعتقد كثيرا فى الأحلام، ويقال إن قرارات دولته فى النهار ما هى إلا تنفيذ لأحلامه بالليل، يقول أبو جليل إنه بعد اكتمال بناء الجامع رأى فى منامه كأن الله تعالى قد تجلى للقصور التى كانت حول جامعه، ولم يتجل له أى للجامع، وفى الصباح سأل المفسرين فقالوا: «يخرب ما حول الجامع ويبقى قائمًا وحده» فخربها.
وبالطبع لا يتفوق أحد على الحاكم بأمر الله أحد أبرز الشخصيات التى عرفت بغرابة الأطوار فى التاريخ البشرى، ورغم ذلك أو وربما لذلك كان مسجده واحدة من أبدع التحف المعمارية فى التاريخ الإسلامى، ومن أغرب ما عرف عنه أنه كان شغوفًا جدا بالليل، لدرجة أنه كان يجمع مجلسه وقاده حكمه على الدوام فى ساعة متأخرة من الليل، ووصل به عشق الليل إلى حد إصدار مرسوم ملكى يقضى بأن تباشر الأعمال ويتم البيع والشراء فى الليل بدلا من النهار، ويؤكد المؤرخون أنه حرم على النساء مغادرة المنازل، وحتى يضمن سجنهن تماما أمر صناع الأحذية بالتوقف عن صناعة الأحذية للنساء.
من أهم الأمثلة على تشابه المبانى مع بانيها هو مسجد السلطان حسن الذى يجمع المؤرخون على أنه كان ملكًا حازمًا شجاعًا منزهًا عن كثير من نقائص المماليك، المسجد الذى يعتبر من درر العمارة الإسلامية أرهق بانيه الذى جعل العمل فى بنائه وتجميله عملا مستمرا طوال حياته، وكان يصرف عليه بسخاء عظيم لدرجة أنه هو نفسه اعترف بعدما أرهقته نفقات هذا الجامع قائلا: «لولا أن يقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع».
ومن الحكايات التى يعيد الكتاب اكتشافها حكاية جامع عمر مكرم، الذى بنى على أنقاض جامع «العبيط» الذى ينسب إلى الشيخ العبيط أحد أبرز علماء الدين فى القرن الثانى عشر الميلادى، وظلت منطقة ميدان التحرير وجاردن سيتى التى يتوسطها الجامع تحمل اسمه حتى عصر الخديو إسماعيل، لكنه ظل صامدا حتى هُجر وتهدم وأقام رجال يوليو الجامع الحالى مكانه، وأطلقوا عليه مسجد عمر مكرم، وهذا المحو أغضب كثيرا من المعماريين والمؤرخين ومنهم د.سعاد ماهر التى قالت: «مع تقديرى واحترامى لتخليد ذكرى مجاهد وبطل.. إلا أننى لا أتفق مع وزارة الأوقاف فى إطلاق اسم عمر مكرم على جامع الشيخ محمد العبيط».