«ياما في الحبس مظاليم» مقولة شهيرة تطلق عندما يدخل شخص السجن بسبب جريمة لم يرتكبها في الأساس.. وهو ما يبين مدي الظلم الذي تعرض له هذا الشخص ليقضي عقوبة ويضيع مدة من حياته مهما كانت كبيرة أو صغيرة في زنزانة حديدية بعيدا عن أهله وأصدقائه وربما يصل به الحال لإنهاء حياته علي يد عشماوي عقابا له علي فعل لم يفعله.. حتي الآن والأمور تبدو طبيعية، بل واعتاد الكثير منا السماع عن مثل هذه الأمثلة التي نعلمها عن أشخاص تعرضوا لهذا النوع من الظلم. لكن الغريب أن يكون أحد هؤلاء الأشخاص قد دخل السجن وتعرض للعقاب برضاه و«عن طيب خاطر» وباعترافه بارتكاب الجريمة، وذلك بالطبع يكون بمقابل متفق عليه مع مرتكب الجريمة ومستحق العقاب الأصلي، وفي كل الأحوال فإن هذا الشخص المظلوم يمثل حالة خاصة احتلت في اللغة العامية الدارجة لقباً يستحقه بجدارة وهو «الكَحُول» هذه الكلمة التي اعتاد البعض إطلاقها في العديد من المواقف وعلي العديد من الأشخاص وغالبا ما يكون معناها يفيد ذم الشخص الذي تطلق عليه، فهناك من يطلقها علي الشخص ضعيف النظر، أو الشخص الذي لا يستطيع أن يميز الأمور من بعضها أو التصرف في بعض المواقف، لكن الكلمة أصلا تعني الشخص الذي يرضي بأن يحل محل أحد المتهمين في قضية معينة مقابل الحصول علي مبلغ مالي منه ليؤمن به ما تبقي من حياته بعد خروجه من السجن وبالمعني الأصح يكون كبش فداء لأحد الأغنياء أو ذوي النفوذ الذين كثيرًا ما يرتكبون جرائم يعاقب عليها القانون، أو الشخص الذي تلفق له قضية دون مقابل ولا غيره ليحل محل شخص آخر أيضا ارتكب جريمة ما أو تسبب فيها.شخصية «الكحول» تعرضت لها الدراما المصرية في العديد من الأعمال الفنية كان أبرزها الدور الذي لعبه الفنان الكبير عادل إمام في الفيلم السينمائي الرائع «حب في الزنزانة» الذي شاركته بطولته السندريلا الراحلة سعاد حسني.. وهو ما تضمن اتفاق أحد رجال الأعمال الذي جسد شخصيته الفنان جميل راتب مع الرجل البسيط علي دخول السجن «كام سنة» بتهمة استيراد شحنة لحوم غير صالحة للاستخدام الآدمي مقابل حصوله علي شقة في أحد مشاريعه ليؤمن بها مستقبله بعد انتهاء المدة التي سيقضيها في السجن. ومن الدراما للواقع فإن هناك الكثير من «الكواحيل» في مصر بمرور العصور والذين تباينت معهم الظروف قليلا، فالكحول في كثير من الأحيان يكون مستفيدا من كونه كحولا وفي أحيان أخري يكون مجبرا علي أن يكون كذلك أو بالمعني «تتلفق له قضية عشان يفلت المتهم الحقيقي من العقاب» دون استفادة تذكر «يعني علي رأي المثل موت وخراب ديار»، وإذا كنت عزيزي القارئ عرفتلك اثنين أو ثلاثة طيلة حياتك فلك أن تتأكد أن حولك الكثيرين ممن لم تعلم أنهم كانوا كواحيل لظروف لم يساعدك فضولك إنك تعرفها. الكثيرون أكدوا أن ظاهرة «الكحول» تحمل شعار (صنع في الإسكندرية) وأن أهالي الإسكندرانية حصلوا علي «براءة إختراع» لهذه الشخصية لكن ذلك يحدث منهم بهدف شبه موحد وفي إطار محدد وهو التهرب من مخالفات البناء والهروب من الغرامات وأحكام السجن والضرائب والتزوير في تراخيص بناء العقارات، والغريب أن مافيا العقارات ابتكرت هذه الشخصية للتحايل علي قانون البناء الذي يقضي بعدم إزالة المبني أو العقار إذا كان مشغولا بالسكان والتصالح بدفع غرامات وذلك قبل صدور قانون البناء الموحد. يقوم بعض المقاولين بالإتفاق مع أحد «الكواحيل» وهو غالبا مايكون شخصًا مجهولاً من الصعيد أو من إحدي القري البعيدة علي كتابة عقد بيع للأرض أو العقار مقابل مبلغ مالي يتراوح بين 5 و20 ألف جنيه ثم يحصل منه بعدها علي توكيل رسمي لاستخراج تراخيص البناء المخالفة وعند تحرير مهندسي الحي محاضر بالمخالفات تكون باسم المالك الرسمي «الكحول» الذي يكون قد اختفي ليصدر ضده في النهاية حكم غيابي وعندها يكون صاحب العقار قد باع جميع الشقق به، لتمتلئ أدراج وحدات تنفيذ الأحكام في المديرية بآلاف الأحكام الغيابية لأشخاص لم يستدل علي عنوانهم. وفي دراسته التي أجراها الدكتور محمد شريف العباسي - الرئيس التنفيذي لمركز الدراسات العمرانية والتخطيطية بالإسكندرية - أشار إلي أن الأمر تحول إلي ظاهرة تتيح للحيتان التربح من وراء المخالفات التي ترتكب خلف ستار الكحول الذي وصفه بأنه شخص «طحنه الفقر» وغالبا ما يعجز عن الدفاع عن نفسه في حالة إلقاء القبض عليه ويدخل السجن بدلا من الفاعل الحقيقي، معتبرا أنه تم إغراؤه بمبلغ يراه الكحول نفسه كبيرا وهو لايتعدي الخمسة آلاف جنيه مشبها إياه بالشخص الذي يبيع جزءًا من جسده من أجل أن يعيش يومه ولايهتم بما سيحدث له غدًا. نماذج «الكَحُول» في مصر كثيرة فمنها مثلا شخص لفقت له قضية كبيرة شغلت الرأي العام واهتمت بها وسائل الإعلام وقاد هذا الشخص حظه السيئ لكي يصبح المتهم الذي «نجحت» الشرطة في القبض عليه «بعد كام ساعة» من وقوع الجريمة، وهنا لك أن تتذكر الكحول الأبرز في مصر وهو المتهم «محمد عبداللطيف» أو الذي أطلق عليه لقب «سفاح بني مزار»، ففي عام 2005 ألقي القبض عليه بعد فترة وجيزة «وبالمناسبة ما طلعش سفاح ولا حاجة» ووقتها انهالت البيانات الأمنية علي وسائل الإعلام بنجاح الداخلية في القبض علي المجرم الذي ذبح 10 أشخاص من 3 أسر بقرية شمس الدين في بني مزار بالمنيا في الوقت الذي أكد فيه الخبراء ودعم كلامهم المنطق باستحالة ارتكاب شخص بمفرده لهذه الجرائم في هذا الوقت القياسي وهو ما استندت إليه محكمة الجنايات التي برأت المتهم من التهم المنسوبة إليه لتؤيد محكمة النقض بعدها براءته ويظل اللغز دون حل. وإن كان سفاح بني مزار «المزيف» قد حصل علي البراءة فإن هناك متهمين في قضايا أخري استحقوا لقب الكحول لمجرد التشكيك في ارتكاب الجرائم التي حوكموا بسببها منهم «سفاح المعادي» الذي صدر ضده حكما تاريخيا بالسجن لمدة 45 عاما بسبب جرائم اعتداء علي عدة فتيات وسيدات منذ سنوات مضت لتعلن الداخلية أنه تم إلقاء القبض عليه يمارس العادة السرية في مدخل أحد المنازل بمنطقة شبرا مصر ويقدم للمحاكمة، وهناك أيضا «محمود سيد العيساوي» الذي اتهم بقتل «هبه العقاد» - ابنة المطربة المغربية ليلي غفران - وصديقتها «نادين خالد جمال الدين» في شقة الأخيرة بالشيخ زايد وصدر حكم من محكمة الجنايات بإعدامه شنقاً إلا أن محكمة النقض قبلت مؤخرا الطعن علي الحكم وقررت إعادة محاكمته بعد أن أكد في بعض جلسات المحاكمة أنه كبش فداء لآخرين لكنه رفض الإفصاح عنهم. المتهمون الثمانية الذين واجهوا أحكاما بالحبس في قضية قطاري العياط «و شالوا الليلة كلها» بدلاً من أن يتحمل المسئولين في وزارة النقل عن الإهمال وعدم تجديد وتطوير الآلات والأجهزة التي يضطر هؤلاء لاستعمالها، محكمة جنح العياط قضت مؤخرا بمعاقبة وحيد كامل موسي قائد القطار 152، وأمير حليم قائد القطار 188 بالحبس 3 سنوات مع الشغل لكل منهما ومعاقبة كل من رمضان مرسال مساعد قائد القطار وبباوي عياد، وحسن علي، وبدر معتصم مراقبي برجي المراقبة بالحبس سنة وحبس المتهمين خالد بكري، وحسام عبدالعظيم 6 أشهر، كما قضت بإلزامهم بدفع مبلغ 51 جنيهًا علي سبيل التعويض المدني المؤقت لأسر الضحايا بالتضامن مع رئيس الهيئة القومية للسكك الحديدية. ومن مفارقات الكواحيل وأسوئهم حظا هو القبطان «صلاح الدين محمود جمعة» ربان السفينة سانت كاترين المتهم في قضية غرق العبارة السلام 98 الذي صدر ضده حكم بمعاقبته بالحبس ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ وكفالة قدرها 10 آلاف جنيه لاتهامه بالامتناع عن المشاركة بجهده لإنقاذ ركاب العبارة السلام من الغرق وفقا لإجراءات الإنقاذ الدولية رغم اقترابه من مكان الغرق مما ساهم في بقاء المجني عليهم وعددهم 1032 لفترة طويلة في المياه حتي ماتوا غرقا ومحاولة منه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه تقدم ربان السفينة سانت كاترين بطعن ضد الحكم الصادر ضده من محكمة جنح مستأنف سفاجا في مارس الماضي إلا أن محكمة جنح النقض أيدت الحكم، وذلك في الوقت الذي ينعم فيه ممدوح إسماعيل مالك السفينة الغارقة والمسئول الأصلي عنها برغد الحياة خارج البلاد بعد حصوله علي البراءة ثم حكم بالسجن لمدة 7 سنوات لم يمنعه من الهرب إلي لندن. ومن هنا فإن المجال يتسع لإمعان التفكير في الوقت الحالي في «الكموني» وأعوانه الذين اتهموا في ارتكاب مذبحة نجع حمادي التي أسفرت عن مقتل 6 مسيحيين ومسلم وإصابة 9 آخرين ليلة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، الكموني الذي أصر ولا يزال يصر أنه بريئا من التهمة وأن هناك أيدي خفية وراء الجريمة يستدعي المواطن العادي للتفكير في كونه كحولا من عدمه. كل ماسبق يؤيد أن مصر بها الكثير من الكواحيل لكن يبقي السؤال.. لماذا يرضي أي شخص بأن يكون متهما في جريمة لم يرتكبها؟ والاجابة بسيطة.. وهي أن الكحول في كل الأحوال يكون إنسانا بسيطا محتاجا للمال وغالبا مايكون مهددا من صاحب الفعلة الأصلي في حالة عدم الموافقة علي «شيل القضية»، واستغلاله في هذه الحالة هو استغلال لظروفه الاجتماعية والمادية، أما الكحول المجبر علي أن يكون كذلك غالبًا ما يكون لا يعلم المجرم الحقيقي لكنه وجد نفسه كبش فداء لمجهول لن يعطيه مالا ولن يتقدم له حتي بالشكر علي إنقاذه.