إذا كان القاضى فى قضية مبارك وأتباعه قد قال علنا إنه عانى من تغييب متعمد للأدلة، فإن حكم مجزرة بورسعيد قد كشف أيضا غياب الأدلة وأثبت أن المجزرة لم تكن مجرد انفعال عشوائى من الذى يحدث فى مباريات كرة القدم، بل جريمة مدبرة. فالقتل إما أن يكون قتل خطأ، أو ضربا أفضى إلى موت، أو قتل عمد، أو قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد. ولايحكم بالإعدام على متهم بالقتل إلا فى الحالة الأخيرة. ولو كان هؤلاء الجناة مجرد مشجعين أثارتهم هتافات ولافتات جمهور الأهلى فهجموا عليهم وقتلوهم، فإن جريمتهم تكون إما ضربا أفضى إلى موت، أو قتل عمد (وليس مع سبق الإصرار والترصد). وفى الحالتين لا يحكم عليهم بالإعدام. أما وقد صدر الحكم بالإعدام، فلابد أنه ثبت فى يقين المحكمة أن القتل كان عن سبق إصرار وترصد.
أى أنه هناك تخطيط واتفاق وتجهيز وتنفيذ. فما هو الدافع للقتل وهم لا يعرفون الضحايا شخصيا؟ كيف تعاقدوا وتعاهدوا وتعمّدوا وأصرّوا وهم شباب من أماكن وبيئات مختلفة، وفيهم متهمون لا صلة بينهم وبين بعضهم البعض؟. كيف توصّلت التحريات إلى التأكد من اتفاقهم المسبّق على قتل الضحايا ولم تتوصّل إلى المخطِّط والمحرِّض؟. كيف أعدوا أدوات الجريمة وأدخلوا الأسلحة إلى الاستاد؟. أين المخبرون والمباحث الجنائية وأمن الدولة، معذرة، الأمن الوطنى ؟.
من أصرّ على إجراء المباراة رغم الشواهد والنذر؟. أين المسئولون عن مراقبة حركة الجماهير قبل وأثناء وبعد المباراة؟ من تقاعس عن حماية الشباب منذ لحظة نزول القتلة من مدرجهم وبدء هجومهم وأثناء عمليات القتل التى كانت تجرى على الهواء فى بث مباشر؟. من اتخذ قرار إطفاء الأنوار؟. من قام بلحام ثلاث بوابات للخروج وترك البوابة التى تفتح للداخل حتى يُدهَس عندها من ينجو من الذبح أو القذف من أعلى المدرج كأنهم كانوا يهدفون إلى قتل جميع الموجودين لولا لطف الله بالباقين؟!. كيف أفسحت طوابير رجال الأمن فى أرض الاستاد الطريق للجناة فى مشهد يذكرنا بقطعان الجمال التى كانت تتهادى بين صفوف الحرس الجمهورى فى موقعة الجمل؟. هل الجناة هم الذين قاموا بعد المجزرة بتنظيف مدرج الأهلى قبل معاينة النيابة والطب الشرعى؟. من الذى قتل الضباط والجنود وحوالى 50 من أهالى بورسعيد فى توابع المجزرة؟.
فى كل جريمة ابحث عن المستفيد. فماهى استفادة القتلة من جريمتهم التى لم تكن جريمة واحدة، بل كانت بداية سلسلة من الجرائم القاسية التى راح ضحيتها العشرات فى كل مرة؟ فقد استغلت المباراة لقتل عدد كبير، ثم استغل تجمهر مواطنى بورسعيد فى منطقة السجن لقتل عدد آخر، ثم حدث هجوم على الجنازة وقتل عدد من المشيّعين فى مشهد غريب على المجتمع المصرى، فهل ننتظر إلى أن تنفجر قنبلة فى مسجد أثناء صلاة الجمعة ونكون كأفغانستان أو الصومال؟. هل استفاد مدبّر هذه المجازر أو استعان بمن يدبّر أحداث الصومال وأفغانستان والعراق وباكستان أم هو نفسه الفاعل هنا وهناك؟
هل قتل هذا العدد الضخم ودفع البلاد إلى هاوية الفوضى مجرد ثأر شخصى بين وزارة الداخلية وشباب الألتراس ردا على بعض الهتافات والأغانى ضد الضباط فى مرات سابقة؟ حتى لو أرادت الداخلية تأديب أولئك الصبية، كانت كعادتها ستعتقل البعض أو تضربهم أو تعذبهم أو تغتصبهم أو حتى تقتل بعض زعمائهم. فهل خطط ضباط الداخلية للجريمة أم كان دورهم تقديم (الدعم اللوجيستى) للمجرمين؟
وفى الفصل التالى ، تم استثمار الغضب المتوقع من أهالى بورسعيد بسبب التمييز والعدالة الناقصة التى حكمت على أبنائهم وأفلتت المجرمين الحقيقيين وليس رفضا لأحكام الإعدام ذاتها فى عملية مزدوجة، هدفها الأول هو تشويه صورة المدينة الباسلة على أنها خارجة على القانون تستحق فرض الطوارىء وحظر التجول، ومع قتل العشرات من أبنائها سيكون من البديهى ظهور بعض ردود الفعل المتطرفة الداعية إلى انفصال بورسعيد، وبالتالى تزيد الهوة ويتّسع الشرخ بينها وبين بقية الشعب الذى سيضع ماحدث فى بورسعيد فى خانة عيوب الثورة. ولأن تخاريف اليوم قد تصبح حقائق الغد، فإن دعوات الانفصال قد تمثل نموذجا تحتذى به مناطق ومحافظات أخرى تصل بالوطن إلى التفتت، إن لم يكون التفتت الجغرافى ، فالتفتت النفسى، الذى يستحيل معه إجماع الشعب على ثورة أخرى. والهدف الثانى هو استثمار غضب شباب الألتراس الذين قتل زملاؤهم أمام أعينهم وكان كل منهم ضحية محتملة لزيادة نقمتهم على أهل بورسعيد التى ترفض توقيع القصاص على القتلة، فيثورون ويحرقون ويثيرون فوضى يسهل خلطها بمظاهرات الثوار فيكفر الشعب بالثورة.
أما الفصل الأخير، الذى لا ندرى ماذا مافى جعبتهم بعده من فصول، فهو ماتم تصويره على أنه مهاجمة سجن بورسعيد لتهريب المتهمين فور نطق القاضى بالحكم. لم يكن الهدف فى رأيى هو تهريب السجناء كما أشيع ،صبّا لمزيد من الزيت على نار غضب الشعب على أهالى بورسعيد، بل كان الهدف هو قتل السجناء أثناء عملية التهريب المزعومة. وبذلك يقطع الخيط الأخير الذى يمكن من خلاله الوصول إلى الجناة الحقيقيين والمخططين. لكن مقاومة قوة الحراسة التى استشهد بعض أفرادها، وتواجد طائرات الهليوكوبتر، وتجمع أهالى المدينة فى محيط السجن أفشل تنفيذ المؤامرة، فجرى الانتقام من الأهالى بقتل العديد منهم.
كانت المحاولة الأخيرة لدفن الحقيقة التى لم تغب عن فطنة أهل بورسعيد، لذلك ثاروا عندما نُقِل السجناء تحت جنح الظلام وطالبوا بعودتهم إلى سجن بورسعيد حتى لايتم تصفيتهم بأيدى الأمن أو بأيدى بعض السجناء الجنائيين عبر مشاحنات مفتعلة. إنها الطريقة التى استعملت كثيرا فى أعمال المخابرات؛ دفع عميل لتنفيذ جريمة، ثم قتل العميل فتضيع الحقيقة ، كان المطلوب أن تحدث (الجريمة الكاملة) التى يستحيل فك طلاسمها، كجريمة قتْل الرئيس الأمريكى ( جون كيندى) ثم قُتْل القاتل (لى هارفى أوزوالد)، ولم تحل ألغازها إلى اليوم.
إن الهدف من الجريمة يتناسب مع طريقة تنفيذها ومع عدد الضحايا. وفى جرائم القتل العادية يكون الجانى فردا أو أفرادا، والضحية فردا أو أفرادا. ويكون الدافع للقتل شخصيا، كالدفاع عن الشرف، أو الانتقام، أو السرقة. وهذه الجريمة فيها عدد كبير من الجناة وعدد أكبر من الضحايا، بلا سابق معرفة أو خلاف شخصى بينهم. والمجزرة لم تتوقف آثارها عند قتل الشباب فى الاستاد فقط . إنها ليست كجريمة ثأر فى الصعيد أو خلاف على أرض زراعية فى الريف وقعت وانتهت وحكمت فيها المحكمة بما تراءى لها وأمرها لا يهم سوى أهالى الضحايا والمتهمين، وتنتظر مرافعات النيابة ودفوع المحامين. بل هى جريمة متعددة الفصول، وكرة من اللهب تدحرجت فى كل أنحاء الوطن، تنخر منذ عام فى جسده وتذيب اللحمة بين مكونات المجتمع جغرافيا ونفسيا وطبقيا واجتماعيا.
إنها لعبة قطع الدومينو التى يتوالى سقوطها إلى أن ينهار المجتمع وتنتهى الدولة. ومازالت توابع المجزرة تتداعى فى بورسعيد والاسماعيلية والسويس والقاهرة ودمياط والمنصورة والمحلة والاسكندية وطنطا وسائر الوطن. إن هذه الجريمة المعقدة الممتدة التى أشعلت نيران العصبية بين محافظات مصر هى حجر الزاوية فى المخطط الشيطانى للقضاء على الثورة وتفتيت بلدنا. لم يكلّ أعداء الثورة عن بذل الجهد للقضاء على الثورة منذ اليوم الأول: فور خلع مبارك دُبّرت فتنة غزوة الصناديق لوقف التفاعل الكيميائى الذى بدأ مع أيام الثورة الأولى وأنتج وحدة وطنية أعادت الأمل والانتماء وصارت ثمار الثورة قاب قوسين أو أدنى.
ثم هدمت بعض الكنائس أو أحرقت بدون أى داع، واختفت فتاة هنا أو هناك، لكن المجتمع لم يتجاوب معها، بل سعى إلى إخماد الفتنة وإظهار التلاحم بين المسلمين وإخوانهم المسيحيين بأروع صورة، بما يثبت أن الفتنة الطائقية مشكلة مصطنعة لا جذور لها فى مصر وبالتالى لا تصلح كشرارة اشتعال. وتعرّض الثوار، رجالا ونساءا، أحياءا وشهداءا، للطعن فى دينهم وخُلُقهم ووطنيّتهم.
وأخيرا انتبه أعداء الثورة إلى العقيدة الثانية للمصريين بعد الدين، وهى تشجيع كرة القدم التى تملك ميزة ليست لغيرها؛ فهناك آلاف من شباب الألتراس حديث السن والخبرة والوعى السياسى والاجتماعى الذي لن يفطن إلى أن مدينة بورسعيد لا صلة لها بالمجزرة سوى أنها المسرح المختار للجريمة، ويسهل استغلال حماسهم لإحداث الفوضى فى كل المحافظات التى ينتشرون بها، وهناك ملايين المصريين الشغوفين بمتابعة المباريات ويمكن استخدام غسيل المخ الجماعى لإعادة برمجة أدمغتهم ومحو الثورة من نفوسهم. إذن مباراة كرة القدم هى المكان والوقت المثالى لحدث جبّار. فى البدء استخدموا أكبر استاد فى مصر؛ استاد القاهرة، وحدثت (موقعة الجلابية) التى خرجت رغما عنهم بشكل كوميدى، فتلقاها المجتمع بسخرية وفكاهة أفرغتها من هدفها الأساسى : سيناريو الفوضى المدمرة ، وليس الفوضى الخلاقة.
ثم هداهم شيطانهم إلى تطوير الفكرة وإحداث زلزال بقوة عشرين درجة على مقياس ريختر يرجّ مصر من أقصاها إلى أقصاها وتتوالى توابعه التى لا تقلّ عنه عنفا، بل وتتجاوزه فى آثارها التدميرية. استخدمت مباراة الأهلى والمصرى التى دائما ما تحفل بمشاحنات بين مشجعى الفريقين، خصوصا مع تكرار فوز الأهلى فى اللقاءات السابقة، عندها يكون الغضب من الهزيمة مبررا لحدوث الجريمة وإبعاد فكرة أنها مدبرة . لكن خيّب الله سعيهم وفاز المصرى بالمباراة.
إذا كانت مهمة خبراء الدفاع المدنى عند حدوث حريق هائل هى جمع الأدلة التى توصلهم إلى بؤرته والتعرف على بقايا عود الثقاب الذى التهم الغابة الشاسعة، فإن (لجنة تقصة الحقائق) أعدت تقريرها منذ نهاية ديسمبر 2012 ،ومازلت تنتظر حتى اليوم تحديد موعد مع رئيس الجمهورية لعرض ما توصلت إليه من أسرار قالوا إنها مذهلة ومرعبة. إن النظام الحاكم قبل 30 يونيه 2012 الذى حدث فى عهده الفصل الأول من المؤامرة، والنظام الحالى بعد 1 يوليه 2012 ، الذى حدثت وتحدث فى عهده الفصول التالية والحالية، يتحملان المسئولية. إن لم يكن بالتخطيط للمجزرة وماتلاها، فبالتقاعس عن كشف المؤامرة التى لابد أنهم يعرفون خفاياها. وإن لم يستطيعوا فلا يستحقون حكم البلاد. كيف يعجز (كل رجال الرئيس) عن فهم المؤامرة وكشفها ومصارحة الشعب بالحقيقة إلا إذا كان وراء الأكمة ماوراءها؟
إن سبب قيام ثورة 1919 كان وحدة الشعب واجتماعه على هدف واحد. وجرى إجهاضها بإشعال التنافس والتنابز بين باشوات الأحزاب وإشغالهم بمعارك فرعية فتّتت وحدة الوطن، واستطاع الاستعمار البقاء عشرات السنين، إلى أن استعيدت الوحدة الوطنية بعد ثورة 1952 فجاء الجلاء. وإن مجزرة بورسعيد، وما سبقها من أحداث بدأ تنفيذها منذ 12 فبراير 2011، وما تلاها حتى اليوم، هى من تخطيط أجهزة ومؤسسات محلية ودولية على أعلى مستوى من الحرفية، استخدمت فيها الجريمة والسياسة والدين والإعلام وعلم النفس والاجتماع، لهدف استراتيجى : هو محو آثار الثورة واقتلاع فكرتها من أذهان المصريين، بل والتصدى لمن ينادى بالثورة. لأن ثورتنا لو استكملت مسيرتها كما بدأت، كانت ستغيّر التاريخ وتعيد تشكيل الجغرافيا. فمصر ليست دويلة على الهامش فى صحراء إفريقيا أو أدغال أمريكا اللاتيتية، بل هى قلب العالم، ومحور أحداثه. إن مفتاح لغز تغيير العالم بيد قوطة الشيطان و مؤّه والدسّه و سيكا وعظيمة والقص ومناديلو والماندو وفوكس!