الأستاذ طارق الشناوي واحد من أفضل من يكتبون في الفن بالنقد والتعليق والشرح والتحليل وسرد الحكايات المحببة، لهذا لا أملّ ولا أشبع من القراءة له. وحين أري اسمه علي مقال أعرف أنني سأقرأ شيئاً طريفاً مسلياً لا يخلو من العمق والرأي الصائب. قرأت للأستاذ طارق منذ أيام في عموده ب «الدستور» تفسيراً لأغنية «العتبة جزاز» التي كتبها الشاعر الكبير الراحل مأمون الشناوي وشاعت في الفترة التي تلت الهزيمة في 67 مثلها مثل أغنيات كثيرة كانت عنواناً للمرحلة مثل «الطشت قال لي» وغيرها. كنت أظن أن هذه الأغنيات إنما كانت ترجمة لتوجهات عبدالناصر لتخفيف حالة الحزن التي أعقبت الصدمة المروعة بعد زلزال الهزيمة عندما أوصي أجهزة إعلامه بالتسرية عن الناس وبث مواد خفيفة أو بالأحري تافهة تنسيهم الكارثة التي حاقت بالوطن. غير أن الأستاذ طارق فاجأني بأن الشاعر مأمون الشناوي لم يجد للتعبير عن هزيمة 67 إلا هذه الكلمات الفولكلورية «العتبة جزاز والسلم نايلو ف نايلو» وهي صورة تعني الاستسلام لم تكتشفها الرقابة!! - علامات التعجب من عندي ذلك أن الشاعر أحمد فؤاد نجم مثلاً قد عبَّر عن صدمته من الهزيمة العسكرية بغنوة بديعة غناها الشيخ إمام تقول: «الحمد لله خبّطنا تحت باطاطنا..يا محلي رجعة ظباطنا من خط النار. يا أهل مصر المحمية بالحرامية..الفول كتير والطعمية والبر عمار». صحيح أنها لم تذع بالراديو أو التليفزيون لكن هكذا عبر نجم عن 67. وإني لأذكر أغنية ناقدة تحايلت علي الرقابة متوسلة بالفن وهي أغنية «ع الانضباط» التي كتبها سيد حجاب ولحنها عمار الشريعي في أواخر عصر السادات وكانت الدنيا وقتها في مصر قد أصبحت «سداح مداح». كتب سيد حجاب: «ع الانضباط يا سلام سلم.. ياما اللي بيشوف يتعلم.. بس المؤكد يا معلم فيه خلق سايبة لازمها رباط». وقد قام المبدع عمار الشريعي بوضع لحن سريع راقص للأغنية وبهذا شتت تفكير الرقابة بعيداً عن الكلمات كما حكي عمار بنفسه!. لذلك لا أستطيع أن أنظر لأغنية العتبة جزاز بحسبانها أغنية تحايلت علي الرقابة للتعبير عن الإحساس بالهزيمة لأن أحداً لم يفهمها علي هذا النحو أبداً، خاصة أنها من أولها لآخرها أغنية خفيفة تغنيها البنات وتقول كلماتها: يا بت مالك خسّيتي.. لسة لا رحتي ولا جيتي.. باين عليكي حبيتي والسلم نايلو ف نايلو. ويذكرني هذا التفسير بقصة «شيء من الخوف» التي كتبها ثروت أباظة، وهي قصة عادية تماماً عن بلطجي يقوم بترويع القرية التي يسكنها. لكن المرحوم أباظة قام بعد وفاة عبدالناصر بإشاعة أنه تصدي للطغيان وكتب قصته للتعبير عن ظلم عبدالناصر لشعبه، وأن عتريس زعيم العصابة هو عبدالناصر نفسه. طبعاً استغل أباظة أن بعض شماشرجية السلطة وقت ظهور الفيلم المأخوذ عن الرواية قد أوصوا بمنعه لأنهم اعتقدوا أن ناصر هو المقصود بشخصية عتريس المجرم!. وأنا أعتقد يقينًا أن ثروت أباظة لم يكن بطلاً عندما كتب قصته العادية، ولو خطر بباله أنه قد يساء تفسيرها لما نشرها من الأساس، كما لا أعتقد أن مأمون الشناوي قد برهن علي أي نحو أن العتبة جزاز تعبر عن الهزيمة. لكن يبقي من أفضال طارق الشناوي أن كتاباته تمنح أفكاراً للنقاش والكتابة سواء اتفقنا مع ما يقول أو خالفناه.