منذ شهرين تقريباً صدر كتاب عنوانه "حكاية كوبري عباس" للصحفي الأستاذ "سيد محمود حسن". في فصله الرابع تعرض لمعلومات تتعلق بتطور النضال الوطني ضد الاستعمار البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، وتشكيل اللجنة الوطنية للطلبة والعمال. في هذا الفصل استند الكاتب إلي حد كبير إلي ما جاء في السيرة الذاتية للدكتور "عصام الدين جلال" عن تلك الفترة من تاريخ الشعب المصري، وعن دور اليسار في الحركة التي امتدت أحداثها من سنة 1945 حتي نهاية 1947 . تصادف أنني عاصرت جزءاً كبيراً مما حدث في تلك الأيام؟ هذا الكتاب وضع في متناول القراء فرصة للاطلاع علي جزء مهم من تاريخنا، وقد استفدت شخصياً من قراءته لكني وجدت فيه بعض المعلومات التي أري أنها لا تتفق مع واقع ما عشته. لذلك كتبت هذا المقال لينشر إن أمكن في جريدة "القاهرة" التي اهتم رئيس تحريرها الأستاذ "صلاح عيسي" بتحليل هذه الفترة المهمة في نضال الشعب المصري. صداقدتي للدكتور عصام احتل الدكتور "عصام الدين جلال" مواقع مختلفة. كان أستاذاً لأمراض الغدد الصماء في كلية الطب، جامعة القاهرة لمدة طويلة، ورئيساً لمركز الرقابة الدوائية الذي أُنشئ في الستينات من القرن الماضي الذي لعب دوراً مهماً في إرساء قواعده وتطويرها، لكن معرفتي به تعود أساساً إلي الفترة التي كنا فيها طلاباً في السنة النهائية لكلية الطب. جمعت بيننا عادة الجلوس في الصف الأخير من المدرج بعيداً عن الزحام، فكنا أحياناً الوحيدين الجالسين في هذا الصف. أتذكره شاباً بدا أكبر من سنه، يحملق في الفراغ سارحاً في شيء بعيد كأنه مشغول البال، صامت ووقور، يتكئ علي عصاة عندما يهبط علي السلالم، ثم يخرج من المدرج ليمشي في الحوش. بالتدريج أخذ يجري بيننا كلام، وبالتدريج قامت بيننا علاقة قريبة من الصداقة. صرنا نذاكر سوياً استعداداً للامتحان، ونقضي أوقاتاً طويلة في الشقة الأسرية القديمة والفسيحة التي انتقلت إليها أسرته بعد أن تركت حياتها في مدينة من مدن الأقاليم. كنا نبحث عن وسيلة لقتل ملل الساعات الطويلة التي تتطلبها المذاكرة في الكلية الطب، وربما أيضاً جذب كل منا إلي الآخر الاختلاف الحضاري والثقافي القائم بيننا كأشخاص. أنا ابن الأم الإنجليزية وحفيد الجد الإقطاعي، وهو ابن الأسرة الفلاحية صاحبة الأطيان في "عزبة أبو جلال" لكن هبطت الأزمة بهم إلي مستوي أقل في الحياة. بالإضافة كنت معروفاً كطالب مجتهد يحصل علي أعلي الدرجات ومن المفيد أن يزاملني طالب تعود أن يسرح في أمور لا علاقة لها بالامتحانات. هكذا توثقت بيننا العلاقات. كان "عصام جلال" شاباً وطنياً متحمساً لبلاده، مُعادياً للاستعمار وللذين يتعاونون معه من حكام البلاد، مرتبطاً بالثقافة القومية والقيم المحافظة، ولغة القرآن، يجنح أحياناً إلي قدر من التعصب القومي، وفي رأيي إلي مُناهضة لليسار، قائلاً إن أسباب اتجاهه هذا هو ضيقه بالأيديولوجية، بالدور الذي لعبه اليهود في تنظيمات اليسار، والأخطاء التي ارتكبتها هذه التنظيمات في أساليب الصراع، في مواقفها السياسية والاجتماعية. كان إنساناً مفكراً ومثقفاً لعب دوراً مهماً في مرحلة من مراحل حياتي فهو الذي ساعد علي إخراجي من القوقعة الأسرية الأنانية التي كنت مُحاصراً فيها، وجعلني أرتبط بالحركة الوطنية والتحركات الجماهيرية التي انطلقت بين الطلبة بعد الحرب العالمية الثانية. أشعر دائماً بقدر من الامتنان للاهتمام الذي أولاه إياي في هذا المجال. لكنه كان يعاني من اعتزاز مبالغ فيه بقدراته، من نزعة فردية طاغية، ورغبة في أن يكون هو الزعيم أو القائد الأوحد في أي مجال تقوده إليه خطواته. كان يميل إلي اعتبار نفسه صانع أهم الأحداث ومن هنا نبعت مناهضته لتنظيمات اليسار لأنه في هذا الوقت كان يري فيها المنافسين له الذين خطفوا أو سيخطفون منه زعامة الحركة التي قامت في تلك الأيام. فيما بعد فقدت العلاقات بيننا اندفاعها الأول لأسباب أعتقد أنها تعلقت أساساً بالفجوة التي انحفرت بيننا في مسارنا السياسي، فلم أعد أحد الذين كان يحب أن يسميهم تلاميذه. فهو الشخصية الذي أطلقت عليه مجموعته فيما بعد اسما حركيا سريا هو "المعلم". ذكرني بكل هذا كتاب "حكاية كوبري عباس". فقد احتل هذا الكوبري في يوم من الأيام موقعاً في مساري النضالي. لذلك بحثت عن الكتاب وابتعته من منفذ بيع هيئة قصور الثقافة. في مقدمة الكتاب قرأت ما يلي: "تتضمن هذه الطبعة إضافات وتعليقات علي كتب وآراء كُتبت حول الموضوع لم تكن منشورة عند صدور الطبعة الأولي، وفي مقدمتها مذكرات الدكتور "عصام الدين جلال" الذي كان رئيساً للجنة الوطنية للطلبة والعمال، وهي من وجهة نظري غاية في الأهمية ولم تأخذ ما تستحقه من اهتمام." عند قراءة الفقرة السابقة أحسست بالدهشة فقد عاصرت عن قرب جميع التحركات والتطورات التي سبقت تكوين هذه اللجنة أو وقعت أثناء قيامها إلي أن تفككت واختفت من الوجود. كنت شاهداً علي الدور الذي قام به "عصام الدين جلال"، مع ذلك لم أعرف في أي وقت من الأوقات أنه كان رئيساً لهذه اللجنة، بل أعرف بالتحديد أنه رأس الاجتماع الأول للجنة التحضيرية في ملاعب كلية الطب، فقد اصطحبته إليه، وأنه بعد ذلك اختفي من هذه الاجتماعات تماماً، سواء عُقدت في الملاعب أو في مكان آخر مثل صالة التدريب الرياضي المُلحقة بمستشفي القصر العيني التي كان يشرف عليها مدرس في كلية الصيدلة يدعي الدكتور "محمد فرج". ما عدا هذا رأيته مرتين خلال التحركات التي اقترنت بهذه الفترة. مرة في اجتماع تمهيدي عُقد في مدرج الدكتور "علي إبراهيم" بكلية الطب أثناء شهر سبتمبر سنة 1945، وهو اجتماع سيطرت عليه القيادات الحزبية الطلابية المحترفة (الوفد، الأحرار الدستوريين، السعديين، الحزب الوطني، وقِلة من الإخوان المسلمين) وأشاعت فيه جواً من الصراعات والفوضي مما أفشل الاجتماع. المرة الثانية كانت في اللقاء الذي تم بين عدد محدود من أعضاء اللجنة الوطنية للطلبة والعمال مع رئيس الوزراء "إسماعيل صدقي" باشا في فبراير 1946، الذي كنت أنا حاضراً فيه، وهو اجتماع شارك فيه أيضاً بعض مندوبي الوفد وآخرون، بينما غاب تماماً جميع ممثلي التنظيمات اليسارية الذين كانوا ينشطون في اللجنة، مما يوحي أنه تم الاتفاق علي عقده بعيداً عنهم. أوعز الدكتور "عصام الدين جلال" اختفاءه من الاشتراك في نشاط اللجنة الوطنية إلي مؤامرات الشيوعيين والإخوان المسلمين ضده. أما أنا فأعتقد أن السبب الحقيقي مسألة كانت تتعلق برغبته الشديدة في أن يظل القائد أو الزعيم الأوحد للحركة، وكان هذا مستحيلاً بالطبع، فواقع الأمر هو أن هذه الحركة كانت ذات طابع جماهيري ديمقراطي لافت للنظر. جميع القرارات التي كانت تُتخذ في اللجنة سبقتها مناقشات دامت ساعات طويلة، وشارك فيها جميع الأطراف الممثلة في اللجنة دون استثناء. أما الإخوان فقد انسحبوا منها بعد أول اجتماع للجنة التحضيرية بسبب اتجاهاتها الواضحة المناوئة للاستعمار البريطاني وحلفائه (الملك، الإقطاع، الرأسمالية الكبيرة وبعض الأحزاب)، وبسبب الشعارات التي رفعتها. تآمروا بالاتفاق مع "إسماعيل صدقي" باشا، و"علي ماهر" (جبهة مصر)، و"أحمد حسين" (مصر الفتاة) ليشكلوا لجنة أخري كان اسمها اللجنة القومية بهدف تقسيم صفوف الحركة الجماهيرية، ومساندة سياسات الحكم القائم آنذاك. الشارع الوطني في كتاب "حكاية كوبري عباس" لفت نظري أيضاً فقرات أخري عن دور "عصام الدين جلال" فتوقفت عندها. أورد منها هنا الفقرة الأولي المنشورة علي صفحات 74، 75 من الكتاب التي تقول: "ويروي "عصام الدين جلال" في مذكراته "الشارع الوطني" بالتفصيل طبيعة المناقشات المحركة لوعي الطلاب قبل وأثناء الاجتماعات التي رأسها للجنة والتي أدت بعد ذلك إلي إجراء انتخابات بين الطلاب من ممثلي اللجان الوطنية في الكليات والمعاهد المختلفة، وتكونت بهذا اللجنة التنفيذية العليا في ديسمبر 1945 سعياً نحو إرساء أسس الجبهة الشعبية، ممثلة في لجان وطنية مختلفة بطريقة ديمقراطية في كل الكليات والمعاهد، وتم تكليف "عصام الدين جلال" كرئيس للجنة التحضيرية بهذه المهام. وتكشف مذكراته بالغة الأهمية عن ظروف تكوين اللجان الطلابية في تلك المرحلة، لافتاً لاختياره رئيساً للجنة التحضيرية التي تم انتخابها في اجتماع كلية الطب، لكنه يشدد في نفس الوقت علي طبيعة الارتجال المتولد عن عدم الاستعداد، وهو أمر قد يفسر ما عاشته اللجنة من مشكلات تنظيمية بعد ذلك، لاسيما وأن المؤلف نفسه يري أن الجماعة التي أسسها، وهي التي يشير إليها اختصاراً باسم "جات" أي جبهة الأحرار الديمقراطيين لعبت دوراً رئيسياً في التحضير والتعبئة للحركة الوطنية خلال تلك الفترة، نافياً كل ما أورده "رفت السعيد" في شأن قيادة المنظمات الشيوعية للتحركات التي تلت اجتماعات كلية الطب. وعلي ضوء هذا الخلاف يمكن تفهم الموقف النقدي الذي تبناه "جلال" من اللجنة، وإن كان قد تولي رئاستها كممثل للتنظيمات النقابية العمالية، وليس كممثل للطلبة في المرحلة الثانية لأحداث فبراير ومارس 1946 ." تعليقاً علي هذه الفقرة الطويلة أُريد أن أوضح ما يلي: أولاً: لم يكن "عصام الدين جلال" رئيساً للجنة التحضيرية أو للجنة الوطنية للطلبة والعمال في أي وقت من الأوقات. هذا ما عدا رئاسته للجلسة الاولي الخاصة باللجنة التحضيرية التي عُقدت في ملاعب كلية الطب. أما الحديث عن أنه فيما بعد تولي رئاسة اللجنة الوطنية كممثل للتنظيمات النقابية العمالية فهو استمرار في صُنع تاريخ لا أساس له من الصحة. الواقع أنه لم يكن هناك رئيس للجنة التحضيرية أو للجنة الوطنية بل كانت الرئاسة تتبدل من اجتماع لآخر نظراً للتغير المستمر في عضويتها، والتلقائية الشديدة التي اتسمت بها الإجراءات المتعلقة بتكوينهما ونشاطهما. العناصر المنضمة إليهما لم تكن ثابتة في أي وقت بل اتسمت العضوية بالسيولة التي تميزت بها هذه الحركة الجماهيرية أثناء تلك الأيام. ثانياً: كنت حاضراً في اجتماع اللجنة التحضيرية عندما اتخذ القرار بإجراء انتخابات، وتكوين اللجان التنفيذية في الكليات والمعاهد، ولم يكن "عصام الدين جلال" حاضراً فيه، بل لم يكلف بتنفيذه أحد. كان التكليف موجهاً لجميع الموجودين من الطلبة في هذا اليوم ليقوموا به في كلياتهم ومعاهدهم. وكان هذا أمراً طبيعياً نظراً لاتساع الحركة، كما كان منسجماً مع المبادرات الجماهيرية التي تميز بها النشاط في هذا الوقت حيث جرفت الحركة مختلف العناصر والاتجاهات في تيارها، وعمت روح الابتكار المعتمد علي الناس. ثالثاً: لم أفهم لماذا فضل الأستاذ "سيد محمود حسن" رواية الدكتور "عصام الدين جلال" عن التطورات الخاصة باللجنة الوطنية عما كتبه الدكتور "رفعت السعيد"، أو ما مقاييس اختياره بين الاثنين. أنا لست مع أو ضد أحد منهما ولا تربطني بالدكتور "رفعت السعيد" مصلحة ما، لكني أري أنه قام بعمل تسجيلي مفيد إلي حد كبير، حتي وإن اختلفت مع وجهة نظره في طريقة تناول بعض التطورات. كذلك أقدر الجهد الذي بذله الدكتور "عصام الدين جلال" لكني أري أنه سعي إلي تضخيم الدور الخاص به معتمداً علي عدم معرفة الكثيرين بما دار، فيبدو أنه في أيامنا هذه يكتب التاريخ في كثير من الأحيان وفقاً لمقاييس شخصية لا علاقة لها بما حدث بالفعل اعتماداً علي أن أغلب المعاصرين لهذه الأحداث رحلوا، وعلي أن الوثائق المكتوبة تنقصنا إلي حد كبير. لذلك ربما يكون من الأفضل أن يسعي الباحث في هذه الأمور إلي استقصاء أكثر من رأي وإجراء مناقشات مع مختلف الأطراف. أما الكتابة علي هذا النحو فقد تُوحي بأن كاتبها متحيز لطرف من الأطراف. رابعاً: يقول الأستاذ "سيد محمود حسن" إن جماعة "جات" التي قام بتأسيسها "عصام الدين جلال" لعبت دوراً رئيسياً في التحضير والتعبئة للحركة الوطنية نافياً كل ما أورده "رفعت السعيد" في شأن قيادة المنظمات الشيوعية للحركات التي تلت اجتماع كلية الطب. مثل هذا الكلام مُفاجئ لي فمنظمة "جات" كانت مكونة من مجموعة صغيرة من الأعضاء معزولين إلي حد كبير ويستبعد أن كان لدورهم في الأحداث سوي أثر هامشي إلي أبعد حد. كما أن أسماء الأعضاء الذين انضموا إليها معروفة. أما دور المنظمات الشيوعية في تكوين اللجنة الوطنية للطلبة والعمال فمسألة مؤكدة ومُسجلة في شهادات جمعها مركز البحوث العربية والأفريقية. بالإضافة قد يكون من المفيد أن يناقش مؤلف هذا الكتاب الأستاذ "جمال الدين غالي" الذي عاصر كل خطوة من خطوات تكوين اللجنة الوطنية سواء سبقت تكوينها أو تلتها، وعاش كل تفاصيلها، بل وساهم فيها بدور يستحق أن يعرفه الذين مازالوا يهتمون بما صنعه اليسار في تاريخ مصر وآثاره الباقية في مجال الفكر السياسي والثقافة والفن. أياً كان الأمر فالمهم أن كتاب "حكاية كوبري عباس" يقرر أن ما كتبه الدكتور "عصام الدين جلال" في منتهي الأهمية. لذلك سأقرأ كتابه وربما أُتيحت لي الفرصة لكي أكتب شيئاً عنه علماً بأنني كتبت عن هذه الفترة في سيرتي الذاتية المسماة "النوافذ المفتوحة" ما يمكن أن يلقي عليها قليلاً من الضوء، لكن علي القارئ أن يدرك بأنني لست مؤرخاً، وأن لكل منا تحيزاته قد يزيد أو يقل مدي تأثيرها عليه. المهم أن نكون مدركين لهذا الأمر، وألا نتعجل الكتابة في أمور لها أهميتها فالتاريخ هو ذاكرة الشعب، والذاكرة إن غابت غابت معها النظرة السليمة لمسار المجتمع في الماضي، واحتمالات المستقبل.