في كتاب التاريخ للصف الأول الثانوي جزء يتحدث عن الموانع الطبيعية التي كانت تحمي مصر القديمة من الغزاة، كانت الصحراء أحدها، حيث يقول الكتاب إن كون وادي النيل كان محاطًا بمساحات صحراوية شاسعة فإن ذلك كان مما يعوق جيوش الطامعين عن الوصول بسهولة للمدن واحتلالها. وإن كان هذا مقبولا في العصور القديمة حيث لم تكن ثمة طائرات أو سيارات أو أي وسائل نقل سريعة فإن الأمر ليس كذلك في هذا العصر الذي تقطع فيه الجيوش المسافة من أقصى الأرض لأقصاها في بضع ساعات. ولا أعرف إن كان القول سالف الذكر عن الموانع الصحراوية قد وُضِعَ في المنهج بحسن نية أم أنه يقدم تبريرا لترك الحكومات المتعاقبة الصحاري المحيطة بوادي النيل على حالها، ومن فضلك لا تحدثني عن مشروعات "المجتمعات العمرانية الجديدة" فهو حديث يليق بموضوعات التعبير وليس بالواقع، حيث إن فكرة "تعمير الصحراء" تختلف كثيرا عن هذه "التمثيلية" التي نشاهدها طوال عقود ماضية، ويمكن للقارئ أن يرجع لما كتبه الدكتور محمد المخزنجي في كتابه "جنوبا وشرقا" عن أداء الأشقاء في الإمارات فيما يخص تعمير الصحراء لتعلم أية خيبة نحن فيها. كل ما سبق -في رأيي المتواضع- يفسر مشكلة سيناء التي تحولت لصداع أمني مستمر بين قبائل غاضبة وإرهابيين يعلم الله لمن ينتمون حقا، فضلا عن الأنشطة الإجرامية التي تمرح في أرجائها من زراعة وترويج للمخدرات وتداول للسلاح وتهريب له وللبضائع وللسيارات المسروقة وحتى للبشر. بالله هاتوا لي دليلا واحدا أننا قد استرددنا سيناء التي أقول بكل ثقة إن تكاليف الأوبيريتات والاحتفالات والأغنيات والأفلام التي تناولت تحريرها والمقررة علينا إعلاميا كل سادس من أكتوبر وعاشر من رمضان وخامس وعشرين من إبريل كانت تكفي لتعمير مساحات شاسعة منها. ثمة قول -لا أعرف سنده الديني- عن أن البيت الذي يهجره أهله أربعون يوما يسكنه الجن.. كذلك سيناء لم يكن لها أن تتحول لهذا المرتع لو لم تكن مهجورة.. المشكلة أن الأمر لا يأخذ شكل الإهمال بقدر ما يأخذ شكل "سياسة الدولة" سواء في عهد مبارك أو عهد مرسي الذي لا يختلف كثيرا.. ثمة علامات قوية على تعمد ترك سيناء في هذا الوضع: شعور بالتهميش والاضطهاد لدى أهلها، انفلات أمني فاحش، نقص أو انعدام شبه تام للخدمات، فوضى ضاربة بأطنابها.. مع أن حل "الأزمة السيناوية" -لو سمحتم لي بالتعبير- ليس بهذه الاستحالة، فأين ما يمنع من تعميرها ومد مختلف خدمات الدولة لها بما يناسب طبيعة أهلها وما يحقق لهم الرضا والشعور أنهم "مواطنون" وليسوا مجرد "رعايا مستعمرة"؟ إن الإجابات المائعة حول أن المشكلة تكمن في أمور مثل "طبيعة أهل سيناء التي تختلف كثيرا عن طبيعة باقي المصريين" و"الطابع القبلي للحياة" والتفسيرات التي من هذا القبيل إنما هي تعتبر في رأيي جريمة إضافية وعذرا أقبح من ذنب، فهي لا ترمي في النهاية إلا لزرع صورة نمطية في رئوس المصريين أن أهل سيناء ما هم إلا شراذم من قبائل الأعراب الأجلاف التي تعيش بهمجية وفوضوية وتحمل السلاح لأقل الأسباب.. وهي عنصرية مقيتة روّج لها النظام السابق ويداري فيها النظام الحالي فشله في التعامل مع الوضع في سيناء. فمن حيث خصوصية طبيعة أهل سيناء فإن مصر من الدول التي تتنوع فيها الثقافات الحياتية من بدو وفلاحين وصعايدة ونوبيين وبحاروة، والمفروض أن يكون هذا التنوع نقطة إيجابية لصالح إثراء مختلف جوانب الحياة في المجتمع المصري، ثم إن الخصوصية الثقافية لهذه الفئة أو تلك ليست مبررا مقبولا للتقصير المتعمد في حقوقها فالمفترض من أي نظام يحترم نفسه أن يكون نظاما حاكما خادما لكل المصريين دون تفرقة أو تمييز. وكذلك فإن محاولة تقديم صورة مشوهة عن أهل سيناء لتبرير اقتصار التعامل مع مشكلات المنطقة على الحل الأمني من منطلق أنهم "ماينفعش معاهم غير كده" هو أسلوب استعماري يشبه سياسات بريطانيا في تبريرها قمع السكان الأصليين للمستعمرات ب"عبء الرجل الأبيض في حفظ النظام لهؤلاء الهمج".. وهو فعل إجرامي يصل عندي -حتى وإن رأى البعض رأيي متطرفا- لمرتبة الخيانة العُظمى! يذكرني وضع سيناء بقصة نقلتها لنا كتب التاريخ عن "الأتابك أزبك بن ططخ" الذراع اليمنى للسلطان المملوكي "الأشرف قايتباي"، عندما وجد في القاهرة منطقة مهجورة ليست بها سوى برك المياة الآسنة والخرائب التي ينتشر بها أهل الفساد، فطلب من السلطان أن يهبه إياها ففعل، فقام بتعميرها وبناء البيوت والحمامات وغرس الأشجار بها، وحملت تلك المنطقة اسما نُسِبَ إليه "الأزبكية" وأصبحت لمدة قرون تالية من أرقى مناطق القاهرة وأكثرها أمنا بعد أن كانت وكرا للإجرام.. هذا منذ أكثر من خمسمائة عام.. أدركوا ببساطة أن القضاء على ما قد تجره تلك الخرائب والمساحات المهجورة من مفاسد على القاهرة لن يكون إلا في تعميرها، فهل يعجز نظامنا الذي يرأسه من يحمل لقب "دكتور" في عصرنا الحديث السعيد أن يستوعب تلك الحقيقة البسيطة؟ للأسف فإننا قد انهمكنا في الجدل حول العَرَض لا المرض بنقاشنا خلال الأيام الماضية حول قضية خطف الجنود واحتدام المشاحنات بين أنصار الحل السلمي -التفاوض- أو الأمني -الحملة العسكرية- أو تقديم التحليلات للواقعة سواء باتهام الإخوان بالوقوف وراءها أو الجيش بافتعالها أو الجماعات الجهادية وحماس بالضلوع فيها، وتناثرت نظريات المؤامرة هنا وهناك، وقلما سأل أحدنا نفسه: وما الحل لإغلاق باب الشرور هذا والقضاء على الخطر من جذوره؟ إن كانت ثمة نظرية مؤامرة تستحق أن تفرض نفسها علينا فهي سر ذلك الإصرار على التقاعس عن التحرك ولو بخطوة واحدة تجاه حل مشكلة سيناء الممتدة منذ عقود والإصرار الأكثر إثارة للريبة على تقديم نفس الصورة السلبية عن أهل سيناء وإبقاء الوضع كله في وضع الثبات بل ودفعه لمزيد من التدهور.. لماذا؟ ولمصلحة من؟ من المؤكد أنه ليس لمصلحة الوطن.. والأكثر تأكيدا أن بقاء هذه التساؤلات معلقة يفتح كل أبواب الظنون والأفكار مهما بدت سوداء أو مخيفة.