قد تعرف يوسف إدريس كروائي وقاص وكاتب مرموق للمقالات القصيرة في كبريات الصحف المصرية حتى وفاته في عام 1991، لكن قد لا تعرف أنه محلل سياسي قد يرى الكثيرون أنه من طراز فريد في تحليل الشخصيات والأحداث السياسية والقدرة على الربط لعرض صورة أكثر وضوحاً.. هذا ما لمسته أنا وغيري ممن قرأ كتاب "البحث عن السادات" والذي قام فيه بتجميع لعدد من المقالات نُشرت متتابعة في عدد من الجرائد العربية في أعقاب وفاة الرئيس السادات، والتي حملت النقد العنيف لشخصية السادات نفسه مروراً بانتقاد أعنف لإدارته لحرب أكتوبر وحتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد قبل وفاته بشهور. قبل أن تقرأ السطور التالية.. عليك أن تُدرك إذا كنت من أنصار السادات ومؤيدي مقولة إنه "بطل الحرب والسلام"، فإنك ستُصدم كثيراً وستشعر بانعدام للتوازن عنيف تحتاج بعده إلى مزيد من المعلومات حتى تظل من مؤيديه أو تختار الجانب الأبعد تماماً عن تأييد السادات والإعجاب بإدارته لمصر على مدار 10 أعوام كاملة.. وقبل أن تقرأ -أيضا- وتسأل نفسك وتسألنا.. لماذا يوسف إدريس وكتابه "البحث عن السادات" بالذات الذي نقوم بالاستناد إليه في محاولة لإيجاد زاوية أخرى ننظر من خلالها إلى السادات؟!! فالإجابة لدى يوسف إدريس نفسه والتي أراها كافية جدا حتى نستمع إليه وهو يفنّد آراءه الصريحة جدا في السادات وفي أكتوبر وفي كامب ديفيد، فيوسف إدريس كاتب مصري عاصر فترة ما قبل الثورة كطبيب شاب، وفترة الثورة كواحد من أبنائها، بالإضافة إلى أنها الفترة التي شهدت ظهوره وشهرته كرمز من رموز القصة القصيرة في مصر، إلى جانب معايشته للسادات عن قرب وحتى بعد وفاة السادات كان شاهداً لجزء من عصر مبارك.. وقبل كل ذلك هو أنه كان -مثل معظم الناس- يرى في السادات بطلاً حتى قبل حرب أكتوبر، ولكن التعامل عن قرب بينهما عندما كان يعمل في مؤسسة التحرير وقت رئاسة أنور السادات لها ثم العمل معه أيضا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، جعله يكتشف أنه: "لا بطل ولا يحزنون، بل إن كثيراً من صفاته لا تصلح أن تكون لرجل عادي بسيط فما بالك بعضو مجلس قيادة الثورة وبطل ثورة" -على حد تعبيره، فكانت النتيجة أنه قطع علاقته به بعد عام واحد من معرفته وذلك في عام 1959. من الآن سنجعل يوسف إدريس ليس في خلفية الأحداث، ولكننا سنسرد الأحداث على لسانه، فلا يختلط عليك الأمر، ولكن هذا لا يعني أننا لا نتفق معه بل نرى أنه له وجهة نظر تستحق العرض.. سيبدأ العرض الآن.. استعد من فضلك.. - أولاً الفترة التي أحاطت باختيار السادات كنائب أوحد لرئيس الجمهورية لا تزال منطقة مظلمة في تاريخ مصر لم يتطوع أحد بإجلائها والتصريح بالأسباب الحقيقة التي دفعت جمال عبد الناصر لاختيار السادات كنائب له بشكل مفاجئ وعلى غير المتوقع. - أهي محض مصادفة أن يلي قيادة مصر شخص كالسادات، بمعنى أن يكون قائد المعسكر العربي كله رجل أفصح ما يقوله على أي شيء هو "صح".. رجل خارج قدرته على الغدر لا يوجد لديه بارقة ذكاء أو لمحة ذكاء واحدة، رجل بدأ تاريخه "الوطني" بالتجسس لحساب الألمان، وانضم لمجموعة إرهابية خرج منها كالشعرة من العجين، وما كاد يُفصل من الجيش حتى هرع يُسلّم نفسه ليوسف رشاد لكي يعمل معه في الحرس الحديدي الذي أنشأه ليحارب الضباط الوطنيين ويغتالهم لحساب الملك. - رجل كان يُعارض مجلس قيادة الثورة في انضمامه للضباط الأحرار؛ لأن الجيش كله كان يعرف أنه من رجال يوسف رشاد، ولهذا اختاره عبد الناصر -في اعتقادي- ليكون عيناً له على تحركات الحرس الحديدي، ولهذا اختاره أيضا ليذيع البيان الأول للثورة حتى يخدر الملك والحاشية ويجعلهم يعتقدون أن رجلهم هو الذي يُذيع البيان، وأنها لهذا لابد أن تكون ثورة موالين، أو على حد تعبير حيدر باشا قائد الجيش "زوبعة في فنجان". - إن معظم الذين عرفوا أنور السادات في مرحلة الثورة وما قبلها سمعوا منه قولته الشهيرة: "إن الثورة جاءته بعدما كف عن الثورة أو أصبح هدفه بعيداً تماماً عن مشاكل ومخاطر الثورة وحكم الثورة والسياسة كلها لو أمكن، وهكذا يفسرون سبب بقائه مجرد البقاء بلا فاعلية في الصورة حتى عيّنه عبد الناصر نائباً له وآل إليه الحكم؛ فلو كان لديه ذرة طموح لدور غير دور المتفرج لالتقطها عبد الناصر على الفور وأصبح مصيره كزكريا محيي الدين والبغدادي وغيرهما، النفي التام من الحياة السياسية. - إنه احتفظ بتذكرة السينما التي ذهب إليها ليلة قيام الثورة؛ حتى تكون دليلاً على عدم وجوده مع الثوار لو اكتشفت المسألة مبكراً أو أحبطت الثورة، فيكون هو بعيدا عن السجن أو حتى عن الموضوع. - كان يمضي بين يدي مدلكه الخاص أكثر بكثير مما يمضيه في أي اجتماعات سياسية، حتى أنه اصطحب ذلك المدلك إلى كامب ديفيد وكان يقضي معه أضعاف ما يقضيه مع الوفد المصري أو حتى مع الوفود الأخرى. - كان فاحش الألفاظ ينهال علناً وأمام العالَم سبّا على الناس جميعاً بداية من برجنيف إلى الخميني ومن القذافي إلى الأمراء والملوك.. رجل لم ينادِ على أحد بلفظة الصديق إلا على معلمه كيسنجر، ويُسمي عمر التلمساني وهو رجل وطني مسلم بالكلب، بينما يُسمي المجرم بيجن بأخيه وصديقه الوفي. - تصرفات السادات والتي وصفها مَن عرفوه عن قرب بالسفه أعطت الضوء الأخضر لطبقة من المجرمين واللصوص وقطّاع الطرق أن يصيبها الصرع وتمضي تنهش وتسجل ثروات فلكية في أعوام، بل في شهور، بحيث يمتلك ابن واحد لعصمت السادات 95 مليون جنيه من الأسهم وملايين الدولارات، وكل ما يفعله الشقيق الرئيس من عقاب أن يمنع أخاه وأبناءه من دخول الميناء ويثبت أن هذا المنع كان لخوفه على حياتهم وليس زجراً لهم أو إظهار العين أو نظرة حمراء مانعة. - ما هدفت إليه كان محاولة لرسم الدور الخطير الذي لعبه أنور السادات بالاتفاق مع الأمريكان وإسرائيل، وحوّل به مصر من دولة مستقلة ذات سيادة إلى دولة تابعة خاضعة للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي تماما معزولة عن كل العرب والأفارقة مطرودة "وقتها" من كل اجتماع عربي أو إسلامي، دولة منبوذة مستباحة يكرهها العالَم كله إلا أمريكا الشريك الكامل وإسرائيل المنبوذة هي الأخرى، بحيث تشكل هي وجنوب إفريقيا ومصر ثلاثياً مرفوضاً على مستوى العالم كله. - خطة الأمريكان عن طريق السادات هي إيهامه بأن مصلحته العليا هي في تنفيض يده تماما من العرب ومشاكلهم.. وكأن من الممكن تصوّر وجود مصري مستقل عن العرب أو وجود عرب مستقلين عن مصر. - كان من حظنا التعس أن تتجمع الوساوس على عبد الناصر بحيث تحتم عليه أن يختار أقل زملائه ورفاق 23 يوليو قدرة على قيادة الحقبة التالية؛ خوفاً من أن يختار الرجل القوي المناسب فتسوّل له نفسه أن ينقلب على قائد الثورة فاختار المهرج ليترحم الناس على جديته هو.. الساذج ليترحم الناس على حذقه.. المحب للظهور ليترحم الناس على تواضعه وتقشفه.. والقاعدة الذهبية أن الحاكم الضعيف يصبح أكثر الطغاة رعونة وخوفاً من الرجال الأقوياء والشعب القوي وحتى الراعي الحصيف. - أخيرا.. اكتشفت أن مبادرة القدس ليست مبادرة مصرية في اتجاه الحق العربي أو المصري، وإنما هي مبادرة لصالح إسرائيل وحدها، هي مبادرة إسرائيلية بدأت من إسرائيل وليس من السادات، حيث بدأت عصرا جديدا في صراعها مع العرب، إلا وهو التوغل واللعب داخل المعسكر العربي ذاته. انتهت الجولة في كتاب البحث عن السادات، لكن ما أودّ أن ألفت انتباهك إليه أن يوسف إدريس نفسه وعلى صفحات نفس الكتاب صرّح أنه لم يأتِه الجرأة لنشر ما كتب من تحليلات لشخصية السادات أو لاتفاقية كامب ديفيد وما تلاها إلا بعد قراءة عميقة لمذكرات العديد من الشخصيات التي كانت منغمسة في القضية من الداخل سواء على المستوى المصري أو الأمريكي، فجاءت هذه التحليلات والمعلومات -التي بدت لك أنه من الصعب أن يعرفها غير المقربين- نصاً من مذكرات "جيمي كارتر" -الرئيس الأسبق للولايات المتحدة- والذي كان شاهدا بل ودافعا للتوقيع على الاتفاقية بل وقبل ذلك أيضاً في فض الاشتباك الأول والثاني بعد حرب أكتوبر، واللقاءات التي جمعت بين الجانبين في أعقاب انتهاء الحرب، هنري كيسنجر أبسط تعريف له أنه هو الذي يقف وراء كل ما حدث منذ بدايات حرب أكتوبر وثغرة الدرفسوار إلى الانتهاء من توقيع الاتفاقية، وكان وسيطاً مشتركاً بين مصر وإسرائيل، مذكرات محمد إبراهيم كامل -وزير الخارجية- الذي اختاره السادات عقب استقالة إسماعيل فهمي اعتراضا على مبادرة القدس، ومذكرات عزرا فايتسمان من الجانب الإسرائيلي، ومذكرات سعد الدين الشاذلي -رئيس هيئة أركان القوات المسلّحة المصرية عن حرب أكتوبر 1973. يعني ما قرأته وما سوف تقوم بقراءته في تقرير كامب ديفيد لم تكن تأملات يوسف إدريس وحده بل خلاصة قراءات لأهم الشخصيات التي عاصرت الفترة، مع التأكيد على أنه عاصر تلك السنوات العشر التي كانت فيهم مصر منبوذة من العرب ومقاطَعة من جميع الدولة التي ترفض الاعتراف بإسرائيل ورأي نتائج ما فعله السادات بمبادرة القدس وسلام مصر مع إسرائيل.. فإذا لم تصدق ما قرأت أو رأيت فيه ما يجعله وجهة نظر مبالَغ فيها، حاول أن تجد تلك المذكرات فستجدها أيضا.. واجعل من هذه الملاحظات نقطة انطلاق لمعرفة من نوع مختلف. المصادر: - كتاب البحث عن السادات.. ليوسف إدريس