إن كان التاريخ قد بعد كثيرا عن الحملة الصليبية التي قام بها لويس التاسع عشر للاستيلاء على مصر، التي كانت تمثل له عقبة كبرى في طريق استيلائه على بيت المقدس، إلا أن التاريخ ما زال يذكر جيدا كيف أن أهل المنصورة حاربوا ببسالة منقطعة النظير في معركة شرسة، كانت نهايتها هي أسر لويس التاسع عشر وحبسه في دار ابن لقمان.. وقد كان هذا في فترة حكم شجر الدر زوجة الملك الصالح الذي توفي في منتصف المعركة، وقد أخفت شجر الدر نبأ وفاته حتى يعود ابنه توران شاه من حصن كيفا على ضفاف دجلة.. فعلت هذا حتى لا يفقد الجنود والشعب حماسهم، وقد طلب لويس الأمان له ولحاشيته وللباقي من جنوده، واشترط المصريون عليه -حتى يعطوه الأمان- أن يسلم مدينة دمياط، وأن يرحل رجال الحملة الباقين عن مصر، قبل إطلاق سراح الملك الأسير ومن معه من كبار الحملة الذين سيروا معه، كما اشترطوا أن يدفع فدية كبيرة عن الملك وكبار ضباطه..
وقد وافق لويس وأذعن لأوامر المصريين، ودفع الفدية له هو ولعسكره الخاص وحاشيته، وقد قُتل من جنوده في الحملة ثلاثون ألفا كما ذكر المؤرخون، وقد قدرت الفدية بعشرة ملايين من الفرنكات.. وهكذا رحلت الحملة بلا رجعة منذ نحو ألف ومائة عام..
ليست هذه المقدمة مجرد استطراد، بل هي دعوة لتذكر تاريخنا الحقيقي وتذكر ماذا فعلت مدينة المنصورة الباسلة، وكيف ساعدها حكام البلاد في الوصول إلى النصر. هو تذكرة أن المنصورة -وكثير من محافظات مصر إن لم يكن كلها- ليس من السهل سحق رءوس أبنائها بالمدرعات.. عندما تنتقل من الفقرة الأولى إلى الثانية تشعر بمدى القهر والخزيان، فالمدينة التي قهرت لويس يُقتل أبناؤها بيد حكامها في الشوارع.. هذا ليس من الحق والعدل والدين في شيء، فمن يفعل هذا بفرد من أبناء الشعب المصري لا يفرق عن لويس وجنوده في شيء.. ويستحق أن يحظى بدار ابن لقمان.
الكارثة أننا لا نتحدث هنا عن عدو معتدٍ غادر استباح مصر واستباح دماء أبنائها، ولكنا اليوم نتحدث عن مصري يستحل دماء أخيه المصري، ورئيس مهما قال المدافعون عنه فهو ولي الأمر المسئول وسيحاسبه الله والشعب.. وها هو يستهتر بكل غالٍ في مصر من دماء وشرف وحياة.. ويترك الأمور إلى آخر مداها دون أن نرى له حلا حقيقيا أو رؤية واضحة.
ألا يفكر الرئيس وحكومته أنهم مسئولون وأن الله موجود يسمع ويرى ويحاسب؟! ألم يسمع الرئيس المسلم أو يقرأ في التاريخ ما قاله عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص بعد فتح مصر، عندما سأله: "إذا جاءك رجل من مصر سارق ماذا تفعل به؟"، فرد ابن العاص: "أقطع يده!"، فأجابه عمر بن الخطاب: "وأنا إن جاءني رجل جائع قطعت يدك"؟! ألم يسمع الرئيس ما قاله عمر بن عبد العزيز لابن عمه سليمان بن عبد الملك عندما كان خليفة للمسلمين، حيث قال: "أري دنيا يأكل بعضها بعضا وأنت المسئول عنها والمأخوذ بها"؟! إن لم يكن مرسي قد سمع أو قرأ عن هذا من قبل، فها نحن نقول له ونخبره لعله يسمع ويرى ويعي ما يقال. إن الفوضى تعم كل جزء في البلاد، وليست المنصورة باستثناء، فالمدينة الهادئة التي لم يسمع لها صوت طوال عامين على الثورة انفجرت غاضبة لتتبع بذلك بورسعيد والسويس والمحلة وطنطا والإسكندرية والقاهرة.. ليجعلك تتساءل متى ستنتبه الرئاسة والحكومة إلى أن البلاد تفلت من أيديها، وأنه يجب عليهم أن يوجدوا حلا حقيقيا وأن يلتزموا بتعهداتهم القديمة حتى يوثق بهم عندما يقدموا تعهدات جديدة؟! متى سيفهمون أن أبناء مصر الذين قهروا الأعداء الخارجيين من كل جنس ولون لا يمكن أن يقهروا ويقتلوا على أيدي أبناء وطنهم؟! وأن دار ابن لقمان ما زالت موجودة في مكانها تصلح لكل من يقهر أبناء هذا الوطن، بعيد كان أو قريب! لم يعد هذا الشعب نائما خاملا، وسيجد كل من يفكر في التحول إلى طاغية دار ابن لقمان في انتظاره. الحقيقة أن الكل يحذّر ويتكلم ويفعل ما في وسعه ليقول لهم يوم تفلت الأمور تماما من أيديهم.. اللهم إني بلغت اللهم فاشهد.