مع بداية هذا العقد كانت الحركة الأدبية والثقافية في مصر تخرج من حالة خمول عاشتها لما يقترب من عقدين، تدهور به دور الكتاب المقروء، وقلّ عدد الكتاب الموهوبين -وإن وُجدوا فغالبًا لن يسمع بهم أحد- وأصبحت عملية القراءة ذاتها حِكراً على نخبة من المثقفين الذين مازالوا يتذكرون قيمة الكتاب؛ فلم تكن هناك حركة نشر حقيقية في متناول الجيل الجديد من الكتاب؛ ولكن في عدة سنوات قليلة حدث ازدهار في الحركة الأدبية، وعلى وجه الخصوص النشر؛ فنشأ عدد من دور النشر الحديثة بشكل لافت للنظر. في ذات الوقت نشأت حالة كاملة من الصحوة الثقافية بانت في ظواهر عدة، كحفلات التوقيع والإعلان عن عدد طبعات، كل نسخة تصدر من الكتاب والتباهي بهذا العدد، وصدور قوائم أسبوعية بالأعلى مبيعًا؛ فها هو معرض القاهرة الدولي للكتاب على الأبواب، وبدأت حرب دروس في الإعلان عن مطبوعات كل دار، والأسماء اللامعة التي تحويها، ومعها عشرات العشرات من أسماء الكُتّاب من المستحيل أن تحتفظ بها جميعًا في رأسك.. في خضم كل هذا لابد أن تجد سؤالاً قد ظهر على السطح.. هل هذا الحراك وظاهرة انتشار كل هذا العدد من دور النشر تثري الحياة الثقافية في مصر؟ هل هذه الزيادة زيادة لخلايا سليمة ومعافاة تضخ الحياة والصحة في أوردة الثقافة المصرية، أم أنها زيادة سرطانية مضللة؟ فهناك دور نشر تُفتتح ولا تنشر سوى لأصحابها وأصحاب أصحابها فقط، وغيرها يسهّل عملية النشر حتى أصبح كل عابر سبيل يملك عدداً محدوداً من الجنيهات يملك كتاباً باسمه ويأخذ صفة كاتب، وهذا بالطبع بدون التدقيق في جودة العمل. وهل هذه الزيادة في صالح الثقافة المصرية واكتشاف المواهب، أم أنها مجرد ضخ لعدد كبير مِن المواهب الزائفة؟ ولأن عملية النشر تتكون من طرفي معادلة (الكاتب – الناشر) كان يجب أن نعرف رأي كل منهما؛ فآراؤهم ستمكّننا من معرفة اتجاه الريح وإجابة الأسئلة السابقة.. عند سؤل الكاتب الشاب "تامر فتحي"، وقد صدر له عدد من الأعمال المشتركة ويصدر له في المعرض الحالي مجموعة قصصية بعنوان "بين الملائكة والحشرات" قال: "إنه يرى أنها ظاهرة صحية جدًا، لها الكثير من العيوب؛ ولكن بها ميزة وهي ترك الخيار للقارئ؛ ففي البداية سيكون الأمر صعباً؛ ولكن الوضع لن يستمر للأبد؛ بل سيكون أشبه بالانتخاب الطبيعي، وسنجد أن البقاء للأفضل.. ويؤكد أن هذا الدور رغم أنها تُخرج الكثير من الغث؛ ولكنها تنتج أيضًا الكثير من الجيد وهذا هو المطلوب؛ ولكنه شدد أن هذا لا يمنع أنه يجب أن تنظر أغلب الدور الحالية في سياستها لانتقاء الأعمال لتكون سياسة أفضل من الحالية". أما "عمرو عز الدين" الكاتب الشاب الذي تخصص في الكتابة الساخرة، وصدر له كتابان مشتركان، ويصدر له في المعرض الحالي كتاب "خلطبيطة"؛ فهو يرى "أنها ليست ظاهرة صحية بالمرة، ويقول: الأمر الآن أصبح مغرياً؛ فبعد قيام البعض بافتتاح دور نشر -في وقت كنا نحتاج فيه لتعدد دور النشر فعلا- وبعد نجاحهم في الانتشار، صار مشروعًا يبيض ذهبًا للكثيرين، وهو أمر يذكّرني بتفشي مراكز المحمول والسنترالات في كل مصر.. وأضاف أن أي دار نشر يجب ألا يكون هدفها الأول هو الربح؛ بل المضمون، فإذا تم التدقيق في المضمون؛ إذن فليتم النشر حتى لو كان للأصدقاء؛ لأن هذا سيكون وقتها في صالح الثقافة المصرية، أما لو أن الأمر هو مجرد "يلا يا جماعة عايزين ننشر ونكسب ونهيص"؛ فهذا سيضخ بالفعل عدداً كبيراً من المواهب الزائفة التي لن تستمر طويلاً؛ ولكنها ستأخذ فرصة غيرها من المواهب الحقيقية".. وتختلف مع الرأي السابق القاصة الشابة "علياء بسيوني" صاحبة المجموعة القصصية "يحدث أحيانًا"؛ فهي ترى أنها ظاهرة صحية للغاية؛ فهي تفتح أبواباً كثيرة ليكون الكتاب مطروحاً على الساحة؛ ولكنها عادت لتقول إن هذه الظاهرة في نفس الوقت لا تطرح أدباء حقيقيين كثيرين؛ ولكن مع الوقت فإن القارئ سيستطيع التميز؛ فمع الإصدار الثاني والثالث للكاتب ستتم فلترة سوق النشر، وسيبقى الأفضل.. وإذا قررنا الانتقال للشق الثاني من المعادلة وهو الناشر؛ فلقد توجهنا إلى الأستاذ "محمد سامي" صاحب "دار نشر ليلى" التي بدأت نشاطها منذ عام 2004، وعندما طرحنا عليه تساؤلاتنا، عاد بنا إلى أسباب هذه الظاهرة في رأيه "فبعض الشباب يسعى لنشر أعماله وعندما لا يوفق يجد الحل أمراً من اثنين؛ إما أن يكلّف هو كتبه ويقع مع دور نشر تطلب الكثير، أو يستخدم الأموال التي سيدفعها ليؤسس دار نشر بتكلفة أقل وينشر كتبه وكتب الآخرين، وفي ذات الوقت هناك من يفكر في العمل التجاري، ولهم خلفية ثقافية ومع زيادة دور النشر الحالية اكتشفوا أنه مشروع ناجح؛ لذا فلماذا لا يقومون بعمل مربح في مجال يحبوه؟.. وأكد سامي أن المشكلة تكمن في أن الكثير من دور النشر يسعى للأموال من المؤلفين فقط دون النظر لأي اعتبارات أخرى؛ ولذا فهذا الانتشار دون تدقيق تؤدي لوجود كُتّاب ينشرون لمجرد قدرتهم المادية مما يخرج أعمال مليئة بالتحرر اللفظي والفكري وهدم التابوهات والمقدسات، ولذلك فالأمر أخطر من مجرد دور نشر تنتشر؛ بل هو جيل قادم لن يلتزم بأي أعراف بعد أن يسير على خطى هذا الجيل، وإنه لو أن كل من أمسك بالقلم أو ساعد على النشر شعر بأهمية ما يكتبه ويفعله، وبأن الكلمة من المستحيل أن ينساها التاريخ لأدركوا الفداحة الحقيقة وراء ما يُكتب؛ لذا فالظاهرة غير صحية وتفتح المجال لتتحول عملية النشر من دور ثقافي إلى عملية تجارية، وقد يحوّل الكاتب إلى منتج برنو والكتاب إلى مجلة إباحية غير مصورة". على العكس يرى "محمد هشام أبو العلا" أحد مؤسسي أحدث دور النشر في مصر "دار رواية"، والتي لم يتعدَ عمرها في النشر الورقي شهر من الزمان، أن انتشار دور النشر في حد ذاته ليس بالظاهرة السيئة؛ فهذا يفيد السوق؛ فهو ككل سوق يخضع للعرض والطلب، وبما أن العرض يزيد إذن السعر سيقل، وتكاليف النشر ستصبح في متناول الجميع. ولكن المشكلة الحقيقية أن أغلب أصحاب الدور الآن ينظرون للكتاب على أنه سلعة تجارية تدرّ ربحاً لا أكثر؛ بغض النظر عن المحتوى وجودة الأعمال؛ هذا ما ساهم في خروج كتب كثيرة تتعدى خطوط حمراء. ويرى محمد أن النشر في حد ذاته رسالة لا يمكن أن تخضع لمقاييس تجارية؛ فالناشر يتعامل مع أفكار يقدمها للقارئ؛ فلو كانت هذه الأفكار مسمومة فاسدة أصبح الناشر أخطر من تاجر المخدرات؛ فمدمن المخدرات يمكن علاجه أما من يعتنق فكر معين يصعب علاجه، وقد يستحيل في بعض الأحيان!" وهكذا بعد أن اطلعنا على آراء طرفي عملية النشر؛ فهل يمكننا أن نستفيد من مميزات هذه الحركة النشطة ونتلافى هذه العيوب؟ أم أن السلبيات، ستخنق النشاط الأدبي الوليد وتقضي عليه في مهده أو في أفضل الأحوال ستخرجه وليداً مشوهاً لا نفع منه؟