في ذكراه.. لم يكن جمال عبد الناصر مجرد رئيس لمصر منذ 42 عاما، ولم يكن مجرد رمز لكل الأمة العربية وقتها، ولكنه كان شخصية واقعية فعّالة لا ينساها أبدا من أحبوه ومن كرهوه على حد سواء، ليس في مصر فقط، ولكن في الأمة العربية كلها، بل وربما في العالم أجمع. لن تصل بي المبالغة بأن أقول إن جمال عبد الناصر كان سياسيا بلا أخطاء كما يفعل -مع الأسف- كثيرون من المنتمين والمتحمسين للتيار الناصري، ولكن ناصر كان بشرا مثل كل البشر يخطئ ويصيب، اعتبره البعض أسطورة في وقت اختفت فيه الأساطير في عالمنا العربي، واعتبره آخرون هو من كرّس للحكم الديكتاتوري في البلاد طيلة 60 عاما. ولو تتبعنا الأمر لوجدنا أن الحقبة ذاتها التي عاش فيها عبد الناصر كانت أحد أهم الأسباب في تألق نجمه، فقد كانت مصر تخرج من عهد حُكمت فيه بغير أبنائها لمئات السنين، وكان المواطن المصري متلهفا على وجود رجل ثوري مصري يحيي فيها ذلك الخمول الذي أصابها من الملك وحاشيته، وقبلها أسرته بأكملها، واحتلال إنجليزي استمر سبعين عاما. ولذلك فلقد كانت الأرضية التاريخية والنفسية مُعدّة لاستقبال جمال عبد الناصر الذي أتى بسماته الشخصية ليكون لائقا أشد ما يكون لهذا الدور، فأحبه معظم المصريين، بل والعرب جميعا. اليوم في ذكراه نقترب أكثر من هذه الشخصية التي أثّرت بلا شك، وكانت طرفا في المعادلة الدولية طوال سنين حكمه. هو جمال عبد الناصر حسين سلطان علي عبد النبي، ولد في 15 يناير عام 1918 بالإسكندرية، من أسرة بسيطة، ومع أنه ولد بالإسكندرية لكن أصله فلاح صعيدي من قرية بسيطة هي قرية "بني مُر". كان عبد الناصر يحمل النزعة الثورية من صغره، وقد ظهرت ثوريته منذ أن كان في المرحلة الثانوية بمدرسة رأس التين الثانوية. حتى أن له خطابا أرسله إلى أحد أصدقائه بالمدرسة الثانوية، وهو زميله "حسن النشار" في 4 سبتمبر عام 1935 -أي كان عمر عبد الناصر 17 سنة- يظهر له فيه مكنون نفسه في هذه الفترة، بعد أن شهدت الحركة الوطنية المصرية التي لعب فيها الطلبة دورا أساسيا للمطالبة بعودة الدستور والاستقلال، وكان يقول عبد الناصر في الخطاب: من جمال عبد الناصر إلى حسن النشار.. لقد انتقلنا من نور الأمل إلى ظلمة اليأس ونفضنا بشائر الحياة واستقبلنا غبار الموت، فأين من يقلب كل ذلك رأسا على عقب، ويعيد مصر إلى سيرتها الأولى يوم أن كانت مالكة العالم؟! أين من يخلق خلفا جديدا لكي يصبح المصري الخافت الصوت الضعيف الأمل الذي يطرق برأسه ساكنا صابرا على اهتضام حقه ساهيا عن التلاعب بوطنه، يقظا عالي الصوت عظيم الرجاء رافعا رأسه يجاهد بشجاعة وجرأة في طلب الاستقلال والحرية؟! قال مصطفى كامل: "لو نقل قلبي من اليسار إلى اليمين أو تحرك الهرم من مكانه المكين أو تغير مجرى النيل، فلن أتغيّر عن المبدأ".. كل ذلك مقدمة طويلة لعمل أطول وأعظم، فقد تكلّمنا مرات عدة في عمل يوقظ الأمة من غفوتها ويضرب على الأوتار الحساسة من القلوب ويستثير ما كمن في الصدور.. ولكن كل ذلك لم يدخل في حيز العمل إلى الآن. 4-9-1935 هكذا بدأها جمال عبد الناصر واستمر على خطاها حتى بعد أن دخل الكلية الحربية ونقل إلى منقباد، والتقى فيها بأنور السادات وزكريا محيي الدين ثم عبد الحكيم عامر. وبعد تخرّجه عمل ناصر مدرسا في الكلية الحربية، ثم التحق بكلية أركان حرب، وأثناء دراسته تعرّف على أصدقائه الذين أسس معهم "تنظيم الضباط الأحرار". كانت حرب 1948 هي الشرارة التي فجّرت عزم جمال عبد الناصر ومن معه من الضباط على الثورة، أو الانقلاب.. حسب رؤيتك للأمور. وقد كان عبد الناصر في هذا الوقت قد عيّن مدرسا في كلية أركان حرب، وحصل على رتبة بكباشي (مقدم)، بعد حصوله على دبلوم أركان حرب عام 1951. في أثناء وجود عبد الناصر في حرب فلسطين وحصاره في الفالوجا أكثر من أربعة أشهر وقد رأى الموت بعينه يحصد أرواح جنوده وزملائه الذين رفضوا الاستسلام للصهاينة، وحتى تم رفع الحصار في مارس 1949، بدأت الفكرة ترسخ في ذهنه بضرورة استقلال الوطن، وأن يحكم البلاد أحد أبنائها. مما زاد في رسوخ الفكرة في ذهن عبد الناصر ومن معه من الضباط الأحرار، سلسلة الإخفاقات التي واجهها الملك وتخبّطه في علاقته أثناء الحرب العالمية الثانية بين دول المحور والحلفاء، مما زعزع موقف مصر وأدى إلى إنشاء ثاني أكبر قاعدة بريطانية في المنطقة في السويس، كل ذلك أدّى إلى قيام ثورة يوليو عام 1952. رأس محمد نجيب مصر لفترة عامين تقريبا، شملت هذه الفترة صراعا على السلطة بين ناصر ونجيب، انتهى الصراع في 14 نوفمبر 1954، حيث تمت الإطاحة بمحمد نجيب وتولى عبد الناصر الحكم.. وبالتزامن في الوقت نفسه عقدت اتفاقية الجلاء مع بريطانيا في 19 أكتوبر 1954. لم يوفر عبد الناصر جهدا كي يرى حلمه بمصر قوية، وأمة عربية موحدة، وقد قامت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، والتي لم يتم لها الاستمرار وأخفقت في سبتمبر عام 1961. قام عبد الناصر بالكثير من الإنجازات طوال فترة حكمه، والتي مهما حاول كارهوه إنكارها فلن يستطيعوا.. فقد بنى السد العالي، وأنشأ التليفزيون المصري، ووضع قوانين يوليو الاشتراكية التي كان بعضها صحيحا، وأبرم اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، وفي عهده تم جلاء آخر جندي إنجليزي عن أرض مصر، وتم بناء استاد القاهرة الرياضي، وإنشاء كورنيش النيل، وإنشاء معرض القاهرة الدولي للكتاب، تم التوسع في التعليم المجاني في جميع المراحل، والتوسع المطرد في مجال الصناعات الأساسية.
وتم إنشاء برج القاهرة، وتأسيس منظمة عدم الانحياز مع الرئيس اليوغوسلافي تيتو والهندي نهرو، كما قام بتأميم قناة السويس.. كان هذا بعضا من كل، وهناك أشياء أخرى كثيرة لن يسع الوقت لذكرها. في الوقت نفسه كان بالفعل حُكم عبد الناصر هو تكريسا لفكرة حكم الفرد، وشهدت الحريات السياسية والعامة في عهده تدهورا واضحا لا ينكره إلا مُغيّب، دخلت مصر حروبا ما كان لها أن تدخلها في هذا التوقيت أو بهذه القوة وقتها، مثل حرب اليمن، ورغم مجانية التعليم لكن الكم تفوّق على الكيف، فتخرّج الطلاب بمستوى تعليمي أقل مما يجب، وطالت القوانين الاشتراكية وخصوصا التأميم بعض الشرفاء الذين ظُلموا من جرّائها، وفي النهاية وقعت مصر في نكسة 1967، والتي لا يستطيع أحد إنكار مسئولية عبد الناصر السياسية عنها، بحكم كونه رئيس الجمهورية والمسئول الأول بها. ومع كل هذه العيوب والمميزات تبقى أفضل حسنات عبد الناصر أنه كان نظيف اليد؛ لم يسرق شعبه يوما بشهادة أعدائه وكارهيه قبل محبيه، وأنه كان يملك حلما حقيقيا من أجل رفعة هذا الوطن، وكان مخلصا أشد الإخلاص به، سواء استطاع أن يحقق بعضه أو فشل في ذلك. وقد انتهت حياة ناصر في 28 سبتمبر 1970، حيث كانت آخر مهامه هي الوساطة لإيقاف أحداث أيلول الأسود بالأردن، بين الحكومة الأردنية والمنظمات الفلسطينية في قمة القاهرة، التي بدأت 26 سبتمبر وانتهت 28 سبتمبر يوم وفاته. حيث عاد من مطار القاهرة بعد أن ودّع صباح السالم الصباح -أمير الكويت- عندما داهمته نوبة قلبية، وأعلن عن وفاته يومها، عن عمر 52 عاما، بعد 18 عاما قضاها في رئاسة مصر، ليتولى الحكم من بعده نائبه محمد أنور السادات. وأخيرا.. اثنان وأربعون عاما مرت على رحيل عبد الناصر، بعد رحلة عطاء ثوري متواصل ونضال عظيم، وكفاح كبير بقيت بصماتها في التاريخ، وإخفاقات وفشل يجب أن نتعلم منه اليوم. ونتمنى أن نرى نسخة معدّلة من جمال عبد الناصر تحكم مصر بنفس طهارة اليد والانتماء إلى الوطن وتلافي كل الأخطاء التي سقط بها ناصر.. وأن نتعلم نحن كشعوب مع ذلك أنه لا أحد كامل، للكل مزايا وعيوب، لكن المهم أيهما يغلب الآخر.