دعنا نعترف أن العالم العربي يشهد طفرة ثقافية هائلة، وارتفاعاً قياسياً في أرقام المبيعات والتوزيع، وارتفاعاً بالمقابل في أعداد القراء والكتاب، كما اتسع المجال الأدبي ليشهد تطوراً في أنواع القصة والرواية والشعر، وظهور جيل جديد من الأدباء الذين لم يتجاوز أعمارهم الثلاثين بعد؛ بل إن بعضهم أخرج كتباً وروايات، ولم يتخط حاجز المراهقة. واستطاع بعضهم أن يكتسب شهرة سريعة، وأن يصبح اسمه ذا رنين معروف، وأن يظهر مرات ومرات في البرامج المتخصصة على القنوات الفضائية، ويصحب هذا طبعا حفلات التوقيع والندوات والمسابقات الثقافية وجماهير القراء التي تتابع أعماله وإصداراته، ودخولهم في قوائم أفضل مبيعات وخروج الطبعات الخامسة والسادسة؛ هذا أعظم مما حلم به بعض الكتاب الذين تجاوزوا الخمسين من العمر ولهم في السوق عشر إصدارات أو أكثر. ودعونا نعترف مرة أخرى أن هذه الطفرة الأدبية والثقافية لم تأت اعتباطاً، بل نتيجة أسباب ومبررات عديدة ومتشابكة، أهمها الصدمة الثقافية التي جاءت بعد أحداث 11 سبتمبر، ثم طفرة الإنترنت الهائلة، وجهود أسماء جديرة بالاحترام مثل "د.أحمد خالد توفيق"، و"د.نبيل فاروق"، اللذان صنعا جيلاً من هواة ومحترفي الأدب والقراءة، فخرج جيل لا تقتصر قراءاته على الأسماء التقليدية "نجيب محفوظ" و"يوسف السباعي" و"يوسف إدريس" وغيرهم من أساطين الأدباء؛ بل يعرف أيضا من هو "تشاك بولانيك" و"إسحاق اسيموف" و"سومرست موم" وغيرهم، جيل يقرأ أنواعاً غير تقليدية من الأدب لأسماء لم تطرق باب الأدب العربي إلا مؤخراً، ربما لأن معظم هذا الجيل يتقن الإنجليزية، بحكم ارتباطه بعالم الإنترنت، وما يفرضه من ضرورة إجادة هذه اللغة، وهذا جعل الأدب الشبابي خليطاً من الفكر العربي والجنون الغربي، وصنع أنماطاً جديدة من الشعر والرواية والقصة، خرجت عن القواعد المألوفة والمتبعة. ولابد أن نتفق أن هذا الحراك شجعه معظم مثقفي وكتاب ونقاد مصر والعالم العربي؛ فالفائدة المرجوة أكبر بكثير من أي اعتراضات على حراك ثقافي مبني على ثقافة شبابية لا تهتم كثيراً بالقواعد والأحكام بقدر ما تهتم بالمتعة والوصول إلى القارئ؛ ولكن هذا لم يمنع أيضا أن تخرج طائفة من النقاد التي تهاجم هذا الحراك الشبابي، وتغلب الصنعة على المتعة؛ فالناقد الناقم على الأدب الشبابي يقف احتراماً لكاتب لم يوزع كتابه أكثر من خمس نسخ، ويحمل اسماً معقداً على غرار "عندما تتحول السماء إلى اللون التركوازي"، ولا يعطي أي لمحة من ثقافة أصلية سوى التزامه بالقواعد الحرفية لكتابة الرواية أو القصة، ولا يوحي بأي نوع من المتعة سوى لطائفة من هواة التعقيد، في نفس اللحظة التي يهاجم أي كاتب شبابي لمجرد إحساسه بأنه لم يلتزم بالقواعد المتبعة، أو لأنه يستخدم مصطلحات شبابية رائجة، كأن هذه القواعد تنبع من بيروقراطية لم يعرفها الأدب إلا على يد هؤلاء القلة من النقاد، ودون أن يعترف للحظة أن الأدب بكل أنواعه هو فن لا يعترف بقواعد جامدة؛ بل هو تطور طبيعي لخبرات الأجيال وقدرتهم على الخلق والابتكار، وتغيير هذه القواعد لتناسب العصر. فمن المستحيل مثلا أن يلتزم كاتب حالي بقاعدة الوصف التفصيلي لكل شخصيات وأماكن الرواية، ربما كان هذا يناسب زمنا سبق اختراع التليفزيون والراديو والإنترنت ووتيرة الحياة السريعة، ولكن في هذا الزمن من أين سيأتي القارئ بقدرة على تحمل أربع صفحات كاملة في وصف زهرية أو أحد الأبطال الفرعيين للرواية، أو التحدث عن الاختراع المسمى "طائرة" منبهرا بها طوال أحداث الرواية، لقد هاجم "طه حسين" أبيات المتنبي، وأسبغ في نقد كالسياط على "المنفلوطي" وبالتأكيد سيأتي اليوم الذي يهاجم فيه أحدهم "طه حسين"، لأنه لم يعد يناسب العصر، أنه عبقرية الأدب التي تجعله في تطور مستمر، وما هو رائع في فترة، ضعيف غير قابل للقراءة في زمن آخر، وإلا لكانت برديات الفراعنة هي من سيحصل على أفضل مبيعات في الوقت الحالي! وإذا لجأت مرة إلى أحد هؤلاء النقاد الناقمين على الأدب الشبابي للتقييم أو لإعطاء النصح، فلن تجد منه إلا أربع أو خمس نصائح يتحف الجميع بهم دون أن يقرأ لك ولو لمرة، بل لا يكلف نفسه عناء تصفح كتابك واكتشاف روح الأديب داخلك، فحكمه جاهز على أي أديب شاب، ربما ينبع هذا الحكم من غيرة على زمن لم يعطه كما أعطى غيره من الأدباء الشباب، أو فخر طفولي بقدرة أدبية عظمية لم يقدرها العالم كما ينبغي. أول هذه النصائح هو الصبر.. ولا تعرف معنى هذه النصيحة، هل تنتظر لتبلغ الخمسين من العمر أولا قبل أن تخاطر بنشر كتابك! ثاني هذه النصائح هو إعادة صياغة الرواية أو القصة.. وهو رأي جاهز لأي أديب يجرؤ على طلب مشورته، ودون أن يقرأ العمل الذي يطالب بإعادة صياغته! ثالث هذه النصائح هي أن تقرأ أكثر.. فهو لا يقتنع أبدا بأسماء من قِبل "جورج أورويل" أو "جابريل جارسيا ماركيز"، وربما لا يعرفهم، بل يتحفهم بأسماء لكتاب لم تقرأ كتاباً واحداً يحمل اسم أحدهم، ودائما ما يردد هذه الأسماء ليس عن قناعة بقدرتهم الأدبية، بل لأنهم يرددون اسمه أيضا إذا طُلب من أحدهم المشورة! نرجو أن تقتنع هذه القلة من النقاد أن الأدب الشبابي الرائج هذه الأيام ليس محاولة لصنع عالم عبقري من الأدب؛ بل محاولة لتفريغ شحنات الكبت والتعبير عن الذات، محاولة "للشخبطة" على الجدران، هذه "الشخبطة" صنعت أدباء عباقرة ورجال غيروا العالم لمحاولتهم فقط "الشخبطة على الحيط".