تربيت منذ الصغر على الروايات التي يكتبها الدكتور نبيل فاروق.. وعلى الصورة الوردية التي يرسمها لمؤسسات الوطن، وتعرفت معه كذلك على معنى حب هذا الوطن.. ثم كبرت واكتشفت أن الواقع غير ذلك، وأن مؤسسات الدولة ينطبق عليها قول "الفساد للركب". وكان اعتقادي كقارئة متمعنة دائمة لكل ما كتبه د.نبيل حتى وقت قريب أنه لم يخدعنا ولم يجمّل القبيح، بل هو كتب عن الدولة كما يجب أن تكون، ثم فوجئت مؤخراً ببعض ما يكتبه الدكتور.. بداية يجب أن أنفي التهمة الأصيلة التي ستوجّه لي بعد قراءة المقال وهو انتمائي للإخوان، والواقع أن حصيلة كتاباتي تتحدّث عني، فلقد انتقدت الإخوان في أغلب مواقفهم، ووقفت في الميدان أهتف ضدهم "بيع بيع بيع الثورة يا بديع"، وكنت من أشد المعادين لمرسي منذ بداية الانتخابات.. فأنا لا يمكن أن أتهم بأني إخوانية أو حليفة للإخوان. ولكني أريد فقط الإنصاف والعدل ومخاطبة عقول القراء، لا العبث على أوتار مشاعرهم وخاصة مشاعر الخوف لديهم، لقد انتهج الإعلام عامة هذا النهج، ولكن أن ينتهجه قامة مثل نبيل فاروق؟! فلماذا وكيف؟! فها هو يبدأ مقاله بقوله: "ياااا شعبي الحبيب الصبور المهاود.. قرار ديكتاتوري رقم واحد.. من محمد مرسي فرعون مصر الجديد ومفرق القطرين ونيرون العصر الحديث، بإسقاط كل أحكام القانون الذي ثار الشعب ليضمن سيادته، وإهدار كل الشرعيات المعمول بها في كل دساتير الدنيا، وتجاهل كل الأعراف الدولية، وإعادة مجلس الشعب المنحلّ بحكم المحكمة الدستورية العليا، ولا عزاء للقانون". وهي البداية التي لا تتفق مطلقاً مع شكر د.نبيل عبر روايته بالرئيس السابق، بل وعبر مقالته التي لم يتطرق ولم يستطِعْ يوماً أن يتطرق لرئيس بها، واكتفى بمستويات أقل من النقد. فنجده الآن قد انطلق في أوصاف غاضبة للغاية من ديكتاتور حتى فرعون ومن نيرون إلى مفرّق القطرين.. وأنا بالمناسبة لا أمانع في نقد الرئيس بل لا أمانع حتى في السخرية منه والسباب ذاته لا أختلف معه، فمن تعرّض للعمل كشخصية عامة فليتحمل النقد حتى المتطرف منه.. ولكن السؤال الذي يجب أن يوجَّه لد.نبيل هو: متى اكتشف كل هذه الصفات في مرسي؟! ومتى ظهر جانبه الديكتاتوري الذي ذكره في المقال 11 مرة كل هذا خلال 10 أيام؟؟! فمتى استطاع د.نبيل أن يضع حكما موضوعيا متجردا عن الهوى وعن الأحكام المسبقة وعن الخصومة بالجملة لجماعة الإخوان، فيتم إسقاطها على شخص محمد مرسي؟ فلو عيَّن المرء مدبرة للمنزل لن يحكم على أدائها خلال 10 أيام، وسيعطيها فترة كافية ليرى عملها ويحكم عليها! فمتى استطاع د.نبيل أن يرى ديكتاتورية محمد مرسي التي وصلت لحد الفرعنة، والتي استحقت أن تتساوى بنيرون؟؟! ولا حجة للقول بأن قرار مرسي بإعادة مجلس الشعب هو مؤشر على الديكتاتورية المزعومة، فأولاً عيب شديد على الرجل الذي علّمنا التفكير المنطقي أن يقع فيما يقع به العامة، من أن قرار مرسي هو قرار لرفض حكم الدستورية، فقرار الرجل بشهادة كل قانوني "شريف" -وضع ألف خط تحت كلمة شريف هذه- قرار الرجل هو "سحب" لقرار المجلس العسكري فقط وليس لرفض الحكم، بل إن قرار مرسي يمثل اعترافا ضمنيا بالحكم وميعاد محدد لتنفيذه، ولذا فالقول بأن القرار ديكتاتورية وهتك لحصن القضاء هو مسايرة لإعلام فاسد يوجّه العقول.. وحتى بفرض خطأ القرار فأيضاً هو خطأ قانوني يواجه بالقانون. لم يكتفِ الدكتور بذلك، بل ها هو يتهم الجميع بالغفلة فيما عداه، فيقول: "المشكلة الكبرى في فترة ما بعد الثورة هي أن الكل مصاب بقِصَر نظر مرضي رهيب، ناشئ عن موجة لا مثيل لها من الحقد والكراهية والغلّ، الذين يعمل البعض على تزكيتهم وضمان استمرار اشتعالهم طوال الوقت، اعتمادا على حالة الحماس الانفعالي لدى الشباب ورغبتهم في أن يكون لهم دور على الساحة". يا له من تعميم متواضع أن يتهم الكل بقِصَر نظر مَرَضي، ويتهم الشباب الذين ضحّوا بحياتهم وأطرافهم وعيونهم أنهم مجرد مصابين بحماس انفعالي هدفه أن يكون لهم دور على الساحة؟؟ ثم يستطرد د.نبيل قائلاً: "وقديما قالوا: أسوأ من تواجهه أحمق ذو قضية.." وهكذا مع الأسف فقد حكم السيد نبيل فاروق على كل الشباب الثوري بأنهم مجرد حمقى لهم قضية. والسؤال الفعلي هو: هل يقبل د.نبيل بأن يفقد عينه أو قدمه أو يتحول إلى قعيد أو -لا قدر الله- يفقد حياته من أجل أن يكون له دور على الساحة؟ أم إن الشباب الذي يساند مرسي اليوم هم شباب -لو قرر د.نبيل حقاً أن ينزل للشارع ويعرف عن الشباب الذي يكتب لهم طوال عمره- مختلفون 500% مع محمد مرسي ولكنهم يساندون الدولة، يساندون فكرة الرئيس المدني ضد عسكرة الدولة، يساندون فكرة إسقاط النظام السابق بمؤسساته العميقة.. حتى لو كان ذلك بمساندة مَن يختلفوا معه في الأيديولوجية، ولكنهم أنكروا ذواتهم وتجردوا من هوى النفس وحبسوا خوفهم الطبيعي من تيارات الإسلام السياسي -دون أن ينسوه- لأجل إعلاء كلمة الوطن، وليس "للبحث عن دور على الساحة"! وها هو الكاتب الكبير يواصل هجومه على الشباب الصغير، فيقول: "الكثيرون من الشباب أرادوا أن يكون لهم موقف قوي يثبت وجودهم على الساحة، فامتنعوا عن التصويت أو أبطلوا أصواتهم.. وعندما كان الأكبر سنا يحاولون تبصيرهم بعواقب العناد عندما يتعلق الأمر بمستقبل الوطن الذي هو في الواقع مستقبلهم، كانوا يبتسمون في سخرية باعتبار أنهم الأعلم والأحكم والأكثر فهما.. وعلى أيدي هؤلاء الأبطال سقطت مصر في فخّ ديكتاتورية لم تشهد مثلها في تاريخها كله، وحتى في عهد النظام السابق نفسه." مع الأسف عزيزي كاتب الشباب الأول د.نبيل فاروق دعني أوضح لحضرتك أمرا مهما عن الشباب لم تعرفه، فالشباب الذي قاطع إذا كان سيتراجع فصوته كان لمرسي لا لشفيق.. هذا لأنهم لا يؤمنون بنظريتك القائلة بأن نظام مرسي ديكتاتوري بشكل لم يشهده تاريخ مصر ولا حتى في عصر النظام السابق. هل فاقت ديكتاتورية مرسي ديكتاتورية حكم الفاطميين وحكم العثمانيين وحكم المماليك وحكم الاحتلال وفاقت حكم العسكر....... حتى تستطيع أن تصفها بأنها ديكتاتورية لم تشهد مصر مثلها في تاريخها كله؟؟ تاريخها كله؟!! هل تعني ذلك حقا يا سيدي أم هي مجرد تهويلات بلاغية؟! ولو أردت أن تعدّد على ديكتاتورية النظام السابق (الذي كان مرشحك الخاسر أحمد شفيق أحد أركانه) فلن أتكلم عن سجن المعارضين وسحلهم وتعريتهم أو اغتيالهم وإخفاء معالمهم (ولك في رضا هلال الذي كتبت أنت ذاتك مقالات عنه في السابق مثال). ولن أتكلم عن تزوير الانتخابات والبلطجة وإغلاق اللجان والاستهانة بإرادة الشعب. ولن أتكلم عن السرقة والنهب وإفقار وإمراض الشعب المصري. ولن أتكلم عن تغييب العقول بكل ما هو غثّ ورخيص حتى في الدين تعمّد النظام السابق أن يسمح فقط لكل من يغيّب العقول بالحديث، واعتلاء المنابر فقط لأنهم يدعون ضمن ما يدعون لعدم الخروج على الحاكم، فكانوا أولياءه الذين يقدّمهم ويترك لهم القنوات والمساجد ليغيبوا البشر بتدين ظاهري لا عمق ولا أساس له. بل سأتكلم فقط عن قضائنا "الشامخ" بما أن مظاهر ديكتاتورية مرسي عندك هي فقط ما اعتبرته أنت رفضا لحكم الدستورية.. فأقول لسيادتك إن القضاء في عصر مبارك كان مثالا لأشد وألعن أنواع الامتهان والتجاهل، وأن عدد أحكام القضاء التي ضرب بها النظام عرض الحائط بدءاً بأحكام وقف تصدير الغاز لإسرائيل حتى أحكام الحد الأدنى للأجور تفوق ما يمكن أن تتخيله.. واللطيف أننا لم نسمع لحضرتك -وأنت من أنت- انتقاداً للرئيس المخلوع يحوي ربع الكلمات التي انتقدت بها مرسي، دفعاً عن القضاء.. بل فقط كان سقف انتقادك للنظام لا تتعداه لشخص الرئيس. أم إن القضاء الحرّ اختراع جديد لم تكتشف أنه ضرورة إلا في فترة رئاسة مرسي بينما كان من الكماليات في عصر مبارك؟!! هل ما زلت ترى -أستاذي العزيز- أن عصر مبارك لمدة 30 عاماً كان أقل ديكتاتورية من عصر مرسي 10 أيام؟!! ثم تتهم مرسي بعد ذلك قائلاً: "الأيام القليلة التي جلس فيها على عرش مصر أثبتت أنه مجرد قطعة شطرنج في تنظيم كبير.. وأنه ديكتاتوري النزعة أو أن من يمسكون خيوطه كذلك؛ لأنه فاز بشرعية دستورية، فلما لم تحقق لمن وراءه ما أرادوه نكص بعهوده وأسقط قسمه وتجاهل الشرعية الدستورية وبدأ يتحدث عن الشرعية الثورية الشعبية". لن أعيد الرد على فكرة اكتشافك كل تلك الصفات في مرسي في 10 أيام.. ولكني سأطالب حضرتك فقط بتحري مصادر معلوماتك.. فمتى تحجّج مرسي بالشرعية الثورية؟ لم تأتِ على لسانه ولا لسان متحدث الرئاسة ولا من فسّروا القانون.. لم يأت قول الشرعية الثورية في أي مكان لتفسير القرار.. بل لقد اعتمد القرار -مرة أخرى- على تفسير قانوني صرف وصدر بمواد قانونية دستورية خالصة.. اتفق مع صحتها أو اختلف ولكن لا تقل لي إن مرسي أخرج قرارا أسنده للشرعية الثورية، فهذا أستاذي عبث بالعقول لا يليق بك؛ لأنني واثقة من أنك تدرك معنى الشرعية الثورية والتي لو نفّذت لكان أركان النظام السابق الآن ومناصريهم فوق المشانق، ولك في تاريخ الثورة الفرنسية المرجعية لمعنى الشرعية الثورية. في النهاية أستاذي العزيز د.نبيل فاروق -وأقولها عن حق فلن أنكر أنني تعلمت منك على مدى سنوات عمري الكثير- من تلميذة صغيرة إليك أقول: عرفناك قامة كبيرة لا تدخل هواك الشخصي في كراهية تيار معين، بل صوّرت لنا في رواياتك صورة وردية عن نظام أسود لترينا كيف يكون النظام وحب الوطن وتعطينا دفعة تفاؤل وانتماء. فلا يجوز أن تستبق الأحداث، وأن تسقط تاريخ الجماعة على شخصية مرسي، وأن تحكم على رجل وُضع في منصب فريد لأول مرة يوضع فيه رجل ما في بلادنا عبر انتخاب حقيقي، من منطلق حكمك الشخصي ومحاكمتك لفكره لا لأفعاله. أستاذي.. لقد طبقت قواعد محاكم التفتيش في البحث عن نية الرجل وعن معتقده الذي أخذته به، وطبقت طريقة الدوريات اللبنانية أثناء الحرب الأهلية في القتل وفق الهوية.. فقمت باغتيال مرسي معنوياً وفقاً لهويته دون أن ترى عمله أو فعله أو أداءه، ودون أن تعطي لنفسك الفرصة للحكم الصحيح عليه.. فرجاء راجع نفسك؛ فما عهدناك كذلك. لقراءة مقال د.نبيل فاروق كاملاً (هنا)