عمرو الشوبكي بات من الواضح أن هناك مواجهة قادمة بين المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين، سترسم مستقبل العلاقة بين الجانبين وربما مستقبل هذا البلد لسنوات قادمة. وقد جسّد الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره المجلس العسكري صراع الإرادات بين جماعة الإخوان المسلمين والمؤسسة العسكرية، حيث سحب جانبا من صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح المجلس العسكري الذي أغلق مؤسسته على نفسه وأعطى لقائده الحق في تعيين قيادات الجيش وتقرير ترقياتهم، متخوفا من أن يعيد الرئيس الإخواني الجديد تشكيل الجيش الوطني المصري، على ضوء معايير الولاء الحزبي لا الوطني. والحقيقة أن هذا التخوف من تيارات الإسلام السياسي وبعض الجماعات الراديكالية القادمة من خارج المشهد السياسي السائد تكرر في تجارب كثيرة، وكتبنا عنه مرات عديدة، واعتبرنا أن الإخوان ساروا عكس الاتجاه المطلوب، وجعلوا نصف المجتمع الخائف منهم والمحتج على أدائهم يقبل بتدخل الجيش في العملية السياسية بصورة غير ديمقراطية، وهي أمور تكررت في تركيا التي شهدت انقلاب 1980 المروع، الذي جاء بعد أن شهدت في السبعينيات حرب شوارع راح ضحيتها ما يقرب من 50 ألف قتيل، وانقلاب 1997 الناعم، الذي أطاح بأربكان، ممثل الطبعة التركية لجماعة الإخوان المسلمين. وشهدت تجارب أخرى ما هو أسوأ من تركيا نتيجة غياب الفاعل الوطني وإحلال الدور الخارجي مكانه، فقبلت أطراف داخلية تدخلات خارجية لكي تحميها من أخطار واضطهاد داخلي، مثلما حدث مع جزء كبير من شيعة العراق حين رحبوا بالغزو الأمريكي لكي يرفع عنهم ظلم صدام حسين، وحدث مع القوى العلمانية والفرانكفونية في الجزائر حين تحالفت مع المستعمر القديم (فرنسا) في مواجهة ما اعتبرته خطر التيار الإسلامي، وأخيرا قبِل الثوار في ليبيا بتدخل "الناتو" من أجل إسقاط القذافي. والمؤكد أن الوضع في مصر يختلف عن هذه التجارب، فالثورة حدث وطني لم تهندسه أيادي الخارج، كما جرى في بعض تجارب أوروبا الشرقية، أو كما حدث مع الغزو الأمريكي للعراق، وأن إدارة مرحلة ما بعد الثورة كانت في النهاية لجهة وطنية رغم أخطائها الكثيرة هي المجلس العسكري، وهو أمر لا يريح الولاياتالمتحدة التي انتقدت المسار المصري، رغم إقرارنا بأنه مليء بالعيوب والأخطاء، ونسيت أن مسارها في العراق خلّف 600 ألف قتيل ودولة فاشلة حتى هذه اللحظة، فرهان قطاع واسع من المصريين على دور الجيش كرمانة الميزان في مواجهة هيمنة الإخوان لا يمكن تجاهله حتى لو كان من منطلق ديمقراطي صرف لا نوافق عليه، إلا أن أداء الإخوان وتخوف قطاع واسع من المصريين منهم جعلاهم يرحبون بتدخل الجيش، رغم المخاطر التي يخلفها هذا التدخل على عملية التحول الديمقراطي في البلاد. لقد سارت الجماعة طوال الأشهر الأربعة الماضية عكس الاتجاه الذي كان يجب أن تسير فيه حتى تضمن دخولا سلسا في العملية السياسية ووصولا آمنا إلى السلطة. لقد ظلت الجماعة خارج دائرة الحكم والإدارة، حتى في الفترات التي كانت تتمتع فيها بشرعية قانونية، وظلت دوائر الحكم والمؤسسات الأمنية والعسكرية ترتاب فيها منذ أكثر من نصف قرن باعتبارها خطرا على الدولة والنظام، والأمر نفسه انسحب على فريق من القوى السياسية والمجتمع وقطاع واسع من المسيحيين المصريين. وقد عمّق من هذا الشعور رفض الجماعة أن تكيف وضعها القانوني وترخص وجودها، في الوقت الذي قدمت فيه مرشحا لرئاسة هذه الدولة التي تعالت على قوانينها، واعتبرت نفسها فوق القانون والدولة وتمسكت بأن تكون كل حساباتها وهياكلها الإدارية غير خاضعة لأي رقابة، فهل هذا موقف طبيعي لجماعة ترغب في أن تحكم مصر؟! إن تقدم الإسلاميين في بلاد الربيع العربي مثّل فرصة تاريخية لم تتَح لتجارب إسلامية أو قومية سابقة، وهي أن وصولهم إلى السلطة سيجيء عبر صناديق الانتخاب، وليس عبر انقلاب عسكري كما جرى في السودان، أو ثورة أسقطت النظام والدولة معا كما في إيران، إنما عبر ثورة حديثة سعت إلى تغيير النظام وإصلاح الدولة بهدف بناء نظام ديمقراطي، مثلما جرى في كل بلاد العالم في الأربعين عاما الأخيرة من أوروبا الشرقية إلى أمريكا اللاتينية، مرورا بإسبانيا والبرتغال وتركيا وماليزيا، التي صنعت تقدمها دون ثورة. إن تجارب النجاح تقول لنا إن أي قوة أو جماعة راديكالية تأتي من خارج المنظومة السياسية السائدة لا بد أن تتبنى خطابا مطمئنا وإصلاحيا لا تبدو فيه أنها ستسيطر أو ستحتكر الحياة السياسية، وأنها ستكتب الدستور والقوانين الأساسية بمفردها وتصفي حساباتها مع الدولة لا أن تصلحها. إن إصرار الجماعة على أن تكون لديها لجنة خاصة تعلن من خلالها النتائج فجر الإثنين يعني أنها لا تعترف بمؤسسات الدولة، وهى نفسها الجماعة التي أرسلت طوال ال 140 يوما من عمر البرلمان رسائل شديدة السلبية تجاه كل مؤسسات الدولة من قضاء إلى إعلام إلى شرطة وجيش، فهي التي فصلت قوانين أسرع من تلك التي كان يفصلها نواب الحزب الوطني، وهي التي مارست ماكينتها الإعلامية حملة من الإرهاب السياسي في حق مخالفيها في الرأي، وهي التي بدت في أعين كثيرين من رجال الإعلام الرسمي أنها ترغب في تغيير القيادات غير الموالية لها بأخرى موالية دون امتلاك أي رؤية لإصلاح الإعلام وتطويره. إن الصراع بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين هو صراع على السلطة بين مؤسسة عسكرية لديها امتيازات كثيرة ووضع معنوي واقتصادي مؤثر، وجماعة قامت بعكس ما هو مطلوب منها فكررت تجارب الفشل في تركيا "أربكان" التي كانت لقمة سائغة التهمها الجيش في حين أنه كان في يدها أن تتعلم من مسار أردوجان أو حتى راشد الغنوشي ابن مدرسة الإخوان، لكنها فعلت العكس تماما. قد يتراجع الإخوان عن مواقفهم "الثورية" الحالية، التي تعاملوا معها كورقة ضغط على المجلس العسكري، رغم أنهم يعرفون كما نعرف جميعا أن ضمان انتقال مصر إلى دولة مدنية ديمقراطية لن يكون بشتم العسكر والهتاف بسقوط حكمهم، إنما بالتفاوض الصعب والطويل معهم، حتى نصل إلى دولة مدنية ديمقراطية، لم يقدم الإخوان دليلا عمليا على أنهم راغبون أو قادرون على بنائها، وأن يقتنع الجيش بأن أفضل وسيلة لحمايته واحترامه هي وجود نظام مدني ديمقراطي. نشر بجريدة المصري اليوم