كما كانت أسطورة "علي الزيبق" وقصص "جيمس بوند" تُلهب خيالنا لاحتوائها على الكثير من الغموض والأسرار والمطاردات، أصبحت الآن أخبار تنظيم القاعدة وعملائه هي شغلنا الشاغل، "بن لادن" الذي حيّر فتوة العالَم "أمريكا" وأيضاً "العولقي" -بن لادن الجديد كما تطلق عليه وسائل الإعلام الغربية، ومع كل حادثة جديدة أو لغز محيّر يترك الجاني بصمته من ورائه، وهذه المرة الأدلة ليست أكثر من ملفات صوتية لمحاضرات الشيخ المطارد "أنور العولقي". بداية لا تنبئ بالنهاية وُلد أنور العولقي في نيو مكسيكو عام 1971 من أب وأم يمنيين عندما كان والده يدرس لنيل درجة الماجستير. وفي عام 1978 عادت أسرته إلى اليمن ليقضي جزءاً من طفولته حوالي "11عاماً" شغل والده "ناصر العولقي" -أثناء هذه الفترة- منصب وزير الزراعة ورئيس جامعة صنعاء. بعدها عاد أنور عام 1991 ليُواصل تعليمه في أمريكا وليحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة ولاية كولورادو، ودرجة الماجستير في التعليم في ولاية سان دييجو، وكان وقتها إماماً لمسجد سان دييجو. وفي يناير 2001 سجل في برنامج لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة جورج واشنطن، وكُلّف بالعمل لمسجد دار الهجرة في فولز تشارت (وهو واحد من أكبر المساجد في أمريكا حيث يجتذب ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص في صلاة الجمعة). وبعد أحداث 11 سبتمبر ورغم الشكوك التي تدور حوله، سُمح له بمغادرة أمريكا في عام 2002. مسجل خطر بلا أدلة كافية حتى قبل هجمات 11 سبتمبر2001، لفت الإمام أنور العولقي اهتمام السلطات الفيدرالية الأمريكية؛ بسبب علاقاته المحتملة بالقاعدة. فسجلات الضرائب الأمريكية تشير إلى أن العولقي بينما كان في سان دييجو في عامي 1998 و1999 كان يعمل نائباً لرئيس الجمعية الخيرية للرعاية الاجتماعية (وهي الفرع الأمريكي من مؤسسة خيرية يمنية أسسها الزنداني الذي قاتل مع أسامة بن لادن في الحرب السوفيتية الأفغانية، وقد وصفها مدعون فيدراليون في قضية تمويل الإرهاب بنيويورك بأنها مؤسسة استخدمت لدعم القاعدة وأسامة بن لادن). وزادت شكوك السلطات الأمريكية بعد الهجمات، عندما تبيّن أن ثلاثة من الخاطفين الانتحاريين قضوا بعض الوقت في مساجده في كاليفورنيا وفولز تشارتش وكانوا على علاقة به، ويقال إنه كان "مرشدهم الروحي"، فيظهر من تحقيقات مكتب المباحث الفيدرالية أن وكيل مشتريات يُسمى زياد خليل ويعمل لصالح بن لادن، قد زار العولقي عام 1999، وأيضاً ظهر اثنان من مهاجمي "القاعدة" المتورطين في أحداث 11 سبتمبر؛ هما: خالد المحضار، ونواف الحازمي في جامع العولقي بسان دييجو أوائل عام 2000. وفي إبريل 2001 غادر "الحازمي" سان دييجو، وظهر في جامع العولقي الجديد مع خاطف آخر من مهاجمي 11 سبتمبر وهو هاني حنجور. وجرت مساعدتهما سريعاً في الحصول على شقة بجانب رجل أردني التقيا به هناك، وهو إياد الربابة. وتوصلت لجنة تحقيقات الحادي عشر إلى أن بعض موظفي مكتب المباحث الفيدرالية يرتابون في أن العولقي ربما يكون قد كلّف الربابة بمساعدة الحازمي وحنجور، فضلاً عن ذلك فإن رقم هاتف مسجد دار الهجرة كان قد وجد في شقة بهامبورج كان يسكنها واحد من مخططي الهجمات هو رمزي بن الشيبة. ورغم كل هذه المعلومات إلا أن السلطات الفيدرالية كانت تفتقر إلى أدلة كافية لرفع قضية؛ ولذلك أغلقت التحقيقات، وسُمح للعولقي بمغادرة البلاد عام 2002 بعد أن نفى العولقي وجود مثل تلك الصلات. "بن لادن" الإنترنت بعد مغادرته أمريكا قضى العولقي بعض الوقت في بريطانيا؛ حيث كوّن له اتباع وسط الشباب المسلم المحافظ، وذلك من خلال محاضراته وأشرطته الصوتية، ثم انتقل إلى اليمن عام 2004. وعند عودته ألقى العولقي محاضرة في صنعاء بالجامعة الإسلامية التي يُديرها الشيخ عبد المجيد الزنداني، وكانت واشنطن والأمم المتحدة قد أدرجتا الزنداني في قائمة الإرهابيين عام 2004 واتهمتاه بتجنيد عناصر لمعسكرات تنظيم "القاعدة" وجمع تبرعات لشراء أسلحة لجماعات إرهابية. وقالت مصادر أمريكية إن طلاباً في الجامعة التي يُديرها اتهموا بالضلوع في هجمات إرهابية واغتيالات. ونظراً لعلاقة العولقي بالزنداني وأيضاً بسبب محاضراته الداعمة للعنف كواجب ديني في منتديات الإنترنت ودعواته التي تشجب الغرب بشدة، وترى أمريكا في حربها ضد العراق وأفغانستان في حالة حرب مع الله، وتتحدّث عن المسلمين كشعب محاصر، فيشيد بشدة بالتمرد في العراق و"العمليات الاستشهادية" في الأراضي الفلسطينية. اعتقل العولقي في اليمن في منتصف 2006 بناء على طلب من الولاياتالمتحدة، ثم أفرجت عنه السلطات بعد أن قضى 18 شهراً في السجون اليمنية وسط شعور السلطات الأمريكية بالقلق. حادثة "فورت هود" ومطاردة العولقي مرة أخرى يعود اسم "أنور العولقي" إلى التردد في نشرات الأخبار بعد حادثة "فورت هود" (ولمن لا يعرف قاعدة فورت هود هي أكبر قاعدة عسكرية في العالم ونقطة رئيسية لنشر القوات في العمليات الأمريكية في العراق وأفغانستان، وهي النقطة التي يعود إليها الجنود من مهماتهم في الخارج). وفي الخامس من نوفمبر 2009 استيقظت هذه القاعدة على مجزرة بشعة؛ حيث قام طبيب أمريكي مجند برتبة رائد وهو "نضال مالك حسن" (39 عاما) فلسطيني الأصل، بفتح النار على زملائه ليقتل 13 شخصاً ويُصيب 30 آخرين بجراح بالغة. وبجانب الأسباب الحقيقية وراء هذا الحادث والتي تناقلتها الصحف، ظهر "العولقي" مرة أخرى كدافع لارتكاب المجزرة. وقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن المحققين يبحثون في صلات محتملة بين نضال حسن والعولقي، فقد نقلت الصحيفة عن مسئول أمريكي قوله: "إن حسن كان يتردد على مسجد دار الهجرة في منطقة فولز تشيرش في ضاحية واشنطن عام 2001، حيث كان العولقي يؤم المصلين".
ووفقاً لتحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي فقد تبادل العولقي وحسن 20 رسالة إلكترونية عبر الإنترنت خلال عدة شهور العام الماضي. ونتيجة لهذه التحريات بدأت السلطات الأمنية في اليمن بتعقب ومطاردة العولقي؛ للتحقق مما إذا كانت له صلات بتنظيم القاعدة، خاصة أن الخطبة الموالية للقاعدة والتي تحض المسلمين في العالم على قتل الجنود الأمريكيين في العراق ظهرت على أجهزة كمبيوتر خاصة بالعديد من المشتبه بهم في قضايا إرهاب في الولاياتالمتحدة وكندا وبريطانيا. ولكن حسبما نقلت وكالة الأسوشيتد برس عن والده: "اختفى العولقي منذ حوالي تسعة أشهر في اليمن". سلاحه الوحيد يكمن في أفكاره.. والأفكار لها أجنحة أعلن مسئول رفيع المستوى في إدارة أوباما أن واشنطن تعتقد أن أنور العولقي قد قُتل خلال الغارة الجوية التي شنتها القوات اليمنية يوم 24 ديسمبر على أماكن تنظيم القاعدة في شبوة، على الرغم من أن مسئولين يمنيين وزعماء قبليين وشهود عيان أكدوا أنه ليست هناك دلائل واضحة تشير لمقتل أو إصابة العولقي واثنين من قيادات "القاعدة" في الهجوم. وحذروا من أن الأمر سيستغرق أياماً حتى تتمكن السلطات من تحديد هوية القتلى. ولكن محاولة النيجيري "عمر فاروق عبد المطلب" القادم من اليمن لتفجير الطائرة الأمريكية -رغم فشل المحاولة ونجاة الطائرة وركابها من كارثة حقيقية- تعكس واقعاً مغايراً؛ حيث يُحاول البعض الربط بين أفكار العولقي وما تشربه النيجيري أثناء دراسته العربية في اليمن من أفكار. العولقي ليس قاتلاً أو إرهابياً كما صرّح مَن يعرفونه، فهو -أبداً- لم يحمل سلاحاً ولم يقتل أي شخص، ولذلك لم تستطِع أي سلطة وقفه أو اعتقاله لفترة طويلة، فهو في النهاية رجل دين، ولكنه ذو فكر متطرّف، إن قتل العولقي لن يُنهي تسرّب أفكاره المسمومة إلى عقول الشباب خاصة بعد أن انتشرت في محاضراته وتسجيلاته عبر الإنترنت، وأيضاً قتل الجنود الأمريكان أو ركاب طائرة أمريكية لن يُنهي حرب العراق، فما يحتاجه العالم بعد العمليات الإرهابية والتحريات والمطاردات والاعتقالات، هو وقفة واعية من أجل تصحيح المفاهيم المتعلّقة بطرق نشر السلام والحرية والديمقراطية والعدل خاصة في عقول الأجيال القادمة.