لا يخفى عليك الفارق ما بين إنسان منشرح الصدر. رحيب الأفق. يمتلئ فؤاده بالثبات الباطني. والعمق الداخلي. مع اتصال بالملأ الأعلى. واعتصام بالمولى. وشهود للأحداث والأحوال من منصة عالية. فيرقب كل ما يشتبك ويتداخل حوله. دون أن يستخفه من ذلك شيء. فيزداد قلبه ترقيا وقوة وعنفوانا. وتزداد مقاصده رسوخا. ويجد من الأنس بالله. والركون إليه. ما يزداد به إقبالا عليه. فيصير باطنه روضة منيرة. يستوعب كل ما يطرأ عليه من أحداث الحياة وصخبها. فلا يشتت له ذلك عزما. ولا يوهن له قلبا. ولا يفقده رسوخه. لِمَا تمكن في القلب من النوايا والمقاصد والجليلة.. وما بين إنسان آخر. أطبقت عليه الآفاق. وضاقت، واستحكمت. وامتلأ صدره حرجا وضيقا. وقل صبره. وضاقت عليه الأرض بما رحبت. فأظلم فكره. واستغلق أفقه. . *** *** *** وبين هذين النوعين أصناف من البشر لا تنحصر. تتراوح ما بين هذا وذاك.. *** *** *** والأصل في كل ذلك أن القلب يصاب بعلل وأمراض. إذ تتحول معرفته بالله تعالى من حضور وشهود، ورسوخ ويقين، وثبات وتعلق. إلى خلفية باهتة. مشوشة. بعيدة عن بؤرة اهتمامه. ولا تزال معرفة الحق سبحانه تنزاح بالتدريج عن جوهر فكره ومقاصده. حتى تتضاءل. وتبقى هناك على ضفاف فؤاده. وعلى هامش وجدانه. حتى تصير كلمة مجردة. يقتنع بها عقله. ولكن لا يفيض بها قلبه. ولا يمتلئ بها جنانه. يستحضرها في بعض المواقف ككلمة تجري على طرف اللسان. وتبقى مصانع القرار في أعماقه تقوم وتعمل وفق أسس دنيوية. وتحكمها مرجحات أخرى. منغمسة في الهوى. فإذا بمعرفته بالله تعالى حاضرة. ولكنها مقيدة. تحيط بها الأغلال المحكمة. فلا تحرر عزيمة. ولا تحرك فكرا. ولا تصحح اختيارا. ولا توسع أفقا. وتتحرك مقاصد الإنسان ونواياه وحركة حياته بمعزل عن الله.. *** *** *** فإذا وصل الإنسان إلى ذلك الحال. وتناهت معرفته بالله تعالى إلى ذلك الحد من الضمور. فقد وقع في الداء الأكبر. إذ انهارت سدوده. وتحطمت حصونه. ودمرت متاريسه. التي كانت تحفظه من الأهواء. والعلل.. والأمراض الباطنية.. والقيم الدنيوية.. *** *** *** وتهب عليه عواصف الأهواء. وتتلاطم به أمواج المطامع. وتثور في وجهه رياح عاتية، من زخرف الحياة الدنيا. ويندفع في منافسة الناس فيما يتكالبون عليه. ويتأثر باطنه بالقيم التي تحكم هذه الصراعات. من الانتهازية، والاستغلال، والتحايل، والمكر. والقلب في كل ذلك تنهمر عليه الظلمات. ويترامى إليه غبار كثيف من الميول. ويخبو نور معرفته بالتدريج. ويبتعد دون أن يشعر عن سمت النبيين. ونهج المرسلين. وقيم الصادقين. وتتوارى قضية الآخرة والحساب. وتتحول معرفته بالله تعالى إلى كلمة خاوية. لا جذور لها ولا أثر.. *** *** *** {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ. فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} سورة الحديد، آية 16. *** *** *** ويتحول الإنسان بذلك إلى ظاهرة عجيبة. محيرة. فبينما هو مؤمن. محب لله ورسوله. قائم بفرائض الله تعالى. ينطق بكل ذلك ويتحمس له. إذا هو في نفس الوقت جامد الفؤاد. يخرج من صلاته إلى حركة الحياة فتحركه قيم السوق. وتتصرف في فؤاده وقراراته تلك العادات التي تراكمت في القلب عبر زمن طويل. ويشعر بأن فؤاده واهن. وأن إيمانه هش. فتلوح له تلك المفارقة الباطنية. ويلحظ من نفسه ذلك التخالف، بين قيم يؤمن بها. وبين قوانين وإجراءات وأخلاق، وقيم تحكم حركة حياته في الحقيقة. فتصاب همته بعجز. ويصاب قلبه بفتور ووهن. ويشعر في قرارة نفسه بأنه لا يحب الله على الحقيقة. وأنه يخدع نفسه. *** *** *** وتغيب بذلك المقاصد العليا من الخلق. ويتوانى عن ذكر الله وشكره ومحبته وتوقيره. ولا يستحضر الآخرة في حركة حياته. ولا ينهض إلى تحصيل مكارم الأخلاق. ولا يصنع حضارة. ولا يحقق عمرانا. ويمضي إيمانه في مسار. وتمضي حركة حياته في مسار آخر. محكوم بقيم أخرى. *** *** *** فرفقا أيها الإنسان بنفسك. فقد أتعبت نفسك يا مسكين. فتوقف قليلا حتى تعيد البناء. وتقهر ذلك التيار الجارف الذي استولى على حياتك. وجعلك تقف في باطنك على أرض زلقة. تهتز فيها القيم. وتتداخل فيها الرؤى والمفاهيم. وتفقد فيها الحقائق سطوعها ونورها وأثرها. وينعزل فيها القلب عن التوجيه. وتستولي فيها على الباطن قيم دنيوية بحتة. ويثور بسببها أدنى ما في النفس من أثرة وطمع وتعالٍ وعدوان وميل. ويضيق فيها الأفق. وتنقطع بها صلتك بالملأ الأعلى. *** *** *** وانتبه أيها الإنسان إلى أن مركز القيادة والتوجيه عندك محتلٌّ من قبل عدو لك. يوجه ذاتك إلى تحقيق مطامعه وتدمير مقاصدك. وأنه قلبك مستباح من قِبَل الأهواء والشهوات والمطامع. وأن جنود الحق بداخلك واقعة في الأسر. مقيدة بالأغلال. عاجزة عن توجيه ذاتك إلى مسار الله تعالى. فاجمع همتك. واعقد عزيمتك. على تحرير قلبك. وإحكام حصونه. *** *** *** ولعلك أن تكون قد رأيت بهذا كيف تتسرب الأهواء إلى القلب بالتدريج. فتتلبد سماؤه بالغيوم. وتتسلل إليه الظلمات بالتدريج. فتخرج بهذا من النور إلى الظلمات. وتبتعد شيئا فشيئا عن النموذج الرباني في بناء الإنسان. ذلك الإنسان المنشرح الصدر. الرحيب الأفق. الذي يمتلئ فؤاده بالثبات الباطني. والعمق الداخلي. وارجع من هنا إلى قراءة المقال من أوله.. وللحديث بقية..