خلينا نحسبها: على فين؟! إلى كل مَن يقرأ هذا المقال.. أجبنس عن سؤال واحد.. إلى أين نمضي؟! المجتمع كله في فوضى، والكل فَقَد العقل والحكمة، وقطاع عريض من الشعب رسم لنفسه صورة غريبة من البطولة! لماذا؟! أهي الثورة المسئولة عن هذا؟! أم هي الحرية المفاجئة التي فاز بها شعب لم يمارسها قط من قبل؟! أهو الإعلام الذي شجّع الفوضى، واحتفى بشاب كسر كل المواثيق والأعراف الدولية، واعتدى على سفارة دولة أجنبية -أيا كانت- وهو يجهل أن القانون الدولي يعتبر الاعتداء على سفارة دولة بمثابة إعلان الحرب عليها؟! أهو خطأ الشاب الذي فعلها دون أن يُفكّر في تداعيات ما فعله، ودون أن يعلم شيئا عن قواعد الديبلوماسية الدولية، أم هو الإعلام الذي صنع منه بطلا، وجعل منه مثلا أعلى للشباب على نحو يدفعهم للاعتداء على سفارات دول أخرى؟! أهو تصوّرنا بأن ثورتنا تمنحنا الحق في الاعتداء على الآخرين؟! وعلى سيادة دول أخرى؟! هل هدف الثورة كان إسقاط نظام فاسد وصنع نظام جديد، أم كان إسقاط دولة بأكملها، وتقديمها لقمة سائغة على طبق من ذهب لكل خصومها وأعدائها؟! حقيقة لست أدري!! النظرية التي سمعتها من الكثيرين ممن ليست لديهم أي خبرات سياسية سابقة، أنه من الضروري هدم النظام بأكمله، حتى يُعاد بناؤه على أسس سليمة!! ويا لها من نظرية ساذجة! أو -مع الاحترام للجميع- نظرية حمقاء.. والحكم بأنها نظرية حمقاء لا يعود إليَّ، ولا إلى آرائي الشخصية، أو وجهة نظري للأمور السياسية.. ولا حتى لموقفي من الثورة؛ لأن كل كتاباتي السابقة -والتي واجهت النظام السابق عندما كان في أوجّ قوته وجبروته، والتي يمكن في سهولة الرجوع إليها- كانت تنادي بحتمية الثورة، وبأنها الوسيلة الوحيدة للخلاص من الظلم والطغيان والجبروت.. ولكن الواقع أن حماقة النظرية جاءت منذ زمن بعيد للغاية.. زمن ما قبل التاريخ.. أو ما قبل الميلاد.. جاءت في كتاب "فن الحرب"، والذي يعدّ الدستور الأساسي لكل قائد عسكري، وكل رجل مخابرات، في كل أنحاء العالم، حتى يومنا هذا. والكتاب وضعه على أعواد من الغاب، قبل اختراع الورق بقرون، القائد العسكري الصيني "صن تزو"، عام 555 ق.م؛ أي منذ ما يقرب من سبعة وعشرين قرنا من الزمان.. ففي كتاب "تزو" قاعدة تقول: "الممالك التي يتمّ هدمها بالكامل لا تنهض ثانية أبدا؛ لأن الموتى لا يعودون إلى الحياة". ومنذ ذلك التاريخ، خضع كل القادة العسكريين لهذه القاعدة الذهبية.. لو أرادوا القضاء على أمة قضاءً مبرما؛ فعليهم تدميرها بالكامل.. أما لو أرادوا لها النهوض ثانية، حتى بعد احتلالهم لها؛ فعليهم أن يعملوا على ألا يتم تدميرها بالكامل.. حتى عندما انتصر الحلفاء على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، حرصوا على ألا يتمّ تدمير نظامها بالكامل.. لقد تركوا فيها نظاما قائما، وعلى الرغم من أنهم اعتبروا النازية كفكر جريمة دولية تستحقّ العقاب؛ فقد وضعوا قائد البحرية النازية "دوينتز"، على رأس ألمانيا، حتى لا ينهار النظام فيها تماما.. وحتى يمكنها أن تعود إلى النهوض.. ولكن تحت سيطرتهم.. الأعداء فعلوا هذا بدولة قهروها.. فماذا نفعل نحن بدولة ولدنا وعشنا فيها؟! وإلى أين نريد أن نمضي بها؟! وما الذي نسعى إليه بشأن مستقبلها؟! هل ألقيتم على أنفسكم هذا السؤال؟! وهل درستم الإجابة قبل وضعها موضع التنفيذ؟! مادة "التنمية الذهنية" -التي أتشرّف بتدريسها في الأكاديمية الإسلامية للشباب- بها قاعدة أساسية تقول: "لا تتخذ أي قرارات وأنت منفعل"؛ هذا لأن الانفعال يحجب وضوح الرؤية، ويُفسد بوصلة العقل، ويدفع المرء إلى ارتكاب العديد من الأخطاء، متصوّرا أنه يسير في الطريق الصحيح. وفي كتاب "فن الحرب" مجموعة من القواعد الذهبية التي يتبعها السياسيون والحكماء والقادة العسكريون في كل دول العالم. يكفي أن تعلم أن خطة أمريكا في خوض حرب الخليج، استندت إلى تلك القواعد التي حواها كتاب "صن تزو". ويكفي أن تعلم أن فشل الثورة الإيرانية الأولى في ستينيات القرن العشرين، كان بسبب اتباع المخابرات الأمريكية لقواعد "فن الحرب" الذهبية.. ويكفي أن تعلم أن انتصار الجيش الإسرائيلي على كل الجيوش العربية في حرب 1948؛ كان بسبب أن الإسرائيليين اعتمدوا على قواعد "فن الحرب" الذهبية.. أما نحن؛ فلم نفعل!! ففي كتاب "فن الحرب"، قال "تزو": "القائد الناجح يُفكّر كثيرا، ثم يُهاجم بكل قوته".. "إذا عرفت نفسك ولم تعرف عدوك؛ فكل نصر تفوز به، ستلحقه هزيمة منكرة لقواتك". "وإذا لم تعرف نفسك ولم تعرف عدوّك؛ ستخسر كل معاركك بلا شك". "أما إذا عرفت نفسك وعرفت عدوّك؛ فلا تخشى ألف مواجهة". فهل عرفنا أنفسنا؟! وهل عرفنا عدونا؟! بل هل عرفنا مَن هو حقا عدّونا؟! "الذي يفوز في المعركة هو مَن يقوم بالكثير من الحسابات قبل بدء المواجهة، والذي يخسر المعركة هو مَن يقوم بالقليل من الحسابات". هذه أيضا قاعدة ذهبية من قواعد "فن الحرب"، والتي جاءت في كتاب عمره أكثر من ستة وعشرين قرنا من الزمان. إنها القاعدة التي اعتمدت عليها كل الاستراتيجيات العسكرية والسياسية خلال عقود وعقود.. والتي أثبتت نجاحها في كل مرة.. ولكننا لا نتبعها.. المشكلة الكبرى أن عدونا يتبعها ويعمل بها، في حين تركنا نحن أنفسنا للحماس والانفعال والاندفاع، متصوّرين أننا بهذا سنربح ثورتنا ونربح مستقبلنا.. والواقع أن علم "التنمية الذهنية" يتفق مع قواعد كتاب "فن الحرب" في أن الحماس والانفعال هما وسيلتان للهزيمة لا للنصر.. والعدو أيضا يُدرك هذا.. ويستخدمه ليقودنا نحو الهزيمة، متبعا قاعدة أخرى من قواعد "فن الحرب الذهبية".. "إذا كان غريمك سريع الغضب والانفعال، احرصْ على إثارة غضبه ومضايقته وتأجيج انفعاله، حتى يمكنك أن تقوده إلى الفخ الذي أعددته له". قواعد وضعت من أكثر من ستة وعشرين قرنا، وما زلنا نسقط في فخها في القرن الحادي والعشرين؟! "من يفقد أعصابه أوّلا، هو مَن يخسر المعركة في النهاية". قاعدة ذهبية أخرى، اتفق فيها العلم مع "فن الحرب" واختلف معها حال الشارع عندنا بعد الثورة!! الكل سيُسارع بالطبع إلى تبرير أسباب الغضب وسرعة الانفعال، وربما يتشنّج البعض الآخر في حماسة للثورة ولحتمية التغيير، ولكن كل هذا -ومهما كانت مبرراته- لن يقودنا إلى الأمام، ولن يبني المستقبل الذي ننشده؛ فالتبريرات -أيا كانت- لن تصنع النصر، وإنما فقط ستشرح أسباب الهزيمة.. هذا ما تقوله القواعد، وما يذكره التاريخ، وما كان ينبغي أن نتعلّمه.. والذي ما زالت أمامنا الفرصة لنتعلّمه قبل فوات الأوان.. المهم الآن أن تعيد قراءة كل سبق، وأن تُعيد التفكير في كل ما جاء بالمقال، ثم تعيد طرح السؤال الأساسي على نفسك: إلى أين نمضي؟! إلى أين؟!