لا يوجد عسكري لا يعرف "معركة المزرعة الصينية"، كما أنه في اعتقادي أن الكثير من المدنيين قد قرأوا أو سمعوا عنها، فالمعركة تُدرّس في الكليات العسكرية. لسنا هنا بصدد وصف المعركة بما فيها من خطة رائعة وتكتيك عالٍ بشدة وشجاعة منقطعة النظير، شهد بها العدو قبل الصديق؛ ولكن لو أردنا أن نلقي نظرة سريعة عليها؛ فقد كانت إحدى المعارك الرائعة التي تمّت على أرض سيناء أثناء حرب أكتوبر 73، وبالتحديد أثناء حدوث الثغرة؛ حينما أرادت القوات الإسرائيلية أن تعبُر القناة بشكل عكسي من الشرق إلى الغرب مُتخذة طريق أبو طرطور الذي يعتبر الطريق الوحيد الصالح لمرور الإسرائيليين، وهناك تقع مزرعة قديمة تجريبية لدراسة زراعة المحاصيل في الأراضي القاحلة، وقد استوردت الأدوات الخاصة بالمزرعة من اليابان؛ إلا أنه عند سقوط سيناء عام 1967 سقطت في يد إسرائيل الذين أطلقوا عليها في خرائطهم المزرعة الصينية، ومع بداية حرب أكتوبر استعادت القوات المصرية المزرعة وأصبحت عاملا معيقا واضحا في الطريق المؤدي للثغرة، وهناك قامت الفرقة 16 مشاة ببطولات رائعة في صدّ القوات الإسرائيلية من العبور، وكبدتهم عددا كبيرا من القتلى والمعدات، واستطاعت أن تعرقل عملية العبور العكسي، وأن تجعلها في حدها الأدنى. ولكن ليس في نيتي طبعا -في هذا الوقت بالذات- أن أقوم بالكتابة عن حرب أكتوبر وقد مرّ عليها شهرين على الاحتفال بها؛ خاصة أننا نمرّ بظروف قلقة في البلاد نتمنى زوالها مع نهاية الانتخابات حتى تكون هي بداية الحياة الديمقراطية السليمة لمصر، والميدان مُشتعل ويطالب بمطالب منطقية تستحق أن يُنظر بها وأن تتحقق؛ ولكن ما أريده الآن أن أُشيد برجل تمنيت أن تنحصر بطولاته في حيّز عمله الذي فاز فيه وتفوق على نفسه، وأن أذكّره وغيره أن هذا هو مكان فخره وتفوقه وفخرنا به. وربما أن البعض لا يعرف البطولة التي قام بها هذا الرجل والتي تجلّت في حرب أكتوبر؛ خاصة في هذه المعركة (معركة المزرعة الصينية)، هذا الرجل الذي تسبب في خسارة فادحة للجيش الإسرائيلي، اعتقد أن الكثيرين قد عرفوا من هو الآن.. فالرجل يُعرف بالمعركة ولا تُعرف المعركة بالرجل. هذا الرجل الذي أشاد العالم أجمعه بالمعركة التي خاضها، وبقدراته العسكرية، هو قائد الكتيبة 16 من الفرقة 16 مشاة، إنه المقدم أركان حرب -حين ذاك- محمد حسين طنطاوي، الذي أصبح الآن "المشير محمد حسين طنطاوي". نعم نقول هذا الكلام عن المشير وعن معركته الرائعة؛ لأنه نجح هذا النجاح الباهر في عمله الحربي بصورة متميزة، ونُذكر بهذا أن رفض الحكم العسكري أو المطالبة بحكومة مدنية لا يعني رفضا للجيش أو قواده بأي شكل من الأشكال؛ فالجيش والقائمين عليه محلّ فخر لكل مصري واعتزازه، سواء كانوا في المنازل أو في الميدان أو وقفوا في شارع محمد محمود يصدّون عن الميدان، فقط هذا يؤكّد أن النجاح العسكري لا يعني بالتبعية النجاح بنفس القوة في العمل السياسي، وأن من يرفض العسكر يرفض فقط عملهم السياسي الذي لم يحققوا به طوال 10 شهور النجاح الكافي، وليس رفضا للجيش أو العسكر الذين نعتز ونتغنى ببطولاتهم. بل أننا نهاب أن يؤثر العمل السياسي بمطالبه التي تحتاج للمراوغة والتي قد تثير السخط في بعض الأحيان على ذكريات العمل الحربي الحقيقي؛ الذي حقق هذا الصيت الكبير في الأوساط العسكرية، فيغطي هذا على ذاك، ونخسر خطا أحمر حقيقيا كان في قلوب المواطنين وعلى ألسنتهم للجيش. هناك مثل شعبي يقول: "اعطي العيش لخبازه"، فلماذا لا يبقي العسكريون على تلك الهيبة العسكرية التي تفوقوا بها ويحافظون عليها، وهي محفورة في القلوب، فلا يمكن أن ننسى أن هؤلاء الثوار الذين يهتفون ضد الحكم العسكري الآن هم أنفسهم من هلّل للجيش عندما نزل الميدان يوم 28 يناير؛ لأنهم تذكروا رصيده العسكري الذي يبعث الفخر في القلوب والعقول فهلّلوا لأصحاب هذا النصر، والتي لا نريد الآن أن تضيع في مغبّة الحياة السياسية؛ التي اعتقد أن العسكريين أنفسهم يعرفون جيدا أنهم لن يتفوقوا به كما تفوقوا في عملهم الحربي، ففي الوقت الذي يقف المواطن -أيا كان انتماؤه- خلف قواده العسكريين ليهتف لهم وهو معتز بهم، من حقه أن يقف ليحاسب بل وينتقد ويثور ويغضب من القادة السياسيين، فهذه هي طبيعة الأشياء، ولذلك فإن خلط العسكري بالسياسية لن يفيد أحدا. لن يفيد السياسة لأن العسكر ليسوا مؤهلين لها، ولن يفيد العسكريين لأن السياسة تنتقص من الهيبة والحب الذي يستحقونه، وتنتقص من الوطن بأن تهتز مكانة مؤسسه عظيمة لا تستحق إلا الإشادة لانخراطها فيما لا تحسنه، ولا يحسن أن تنخرط به. أتذكر في هذه اللحظة قول الله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} آية 61 سورة البقرة. لماذا لا ينتهز العسكريون فرصة الانتخابات؛ حتى تكون هذه هي الفرصة للتأكيد على أن المجلس العسكري سوف يتوقف عن حدّ البطولة العسكرية، والتي خُلق من أجلها وتفوق فيها، ويعلوا اسمه ويرتفع بما هو أهل له؟ وينسق في شئون الحياة السياسية مع من هو أهل لها، بل ويقف بجانب من سيتولى الحياة السياسية بعد تركه لها؛ بكونه الجيش حامي الحمى، والحصن الحامي للشعب والأرض، والذي لا يرفع يده أو سلاحه إلا في وجه عدو البلاد، فبلادنا في أشدّ الحاجة إلى جيش قوي غير مشتت بين هذا وذاك. لست هنا بصدد النصح أو النصيحة؛ ولكن هي أمنية ومطمع كثير من المصريين الذين يريدون استقرار مصر وأمنها وأمانها، ورفعتها على يد كل من الجيش والسياسيين والشعب بل والشرطة، وأن ندعو جميعا: "حفظ الله مصر ورفع شعبها فوق جميع شعوب الأرض؛ بولاية من يصلح لها ويُصلح بها في حماية جيشها العظيم".