هل مصر الآن بعد ثمانية شهور من ثورة 25 يناير أصبحت في وحدة؟! أي بمعنى ائتلاف وتجمّع وتجمعات ووحدة واتحاد و.. و.. و... إلى آخره من تلك الأسماء والمسمّيات التي يُؤدي اسمها إلى معنى واحد وهو الاتحاد؛ أم إنها وحدة بمعنى توحّد وتفرّق وانفلات، وكلٌ يُغنّي على ليلاه، وينبح حتى يبح صوته، ولا أحد يسمع أو يرى أو يُنادي. لا أدري ما الذي يحدث حولنا، كنا نسمع في الزمن الجميل مَثَلا -ربما لا يعجب الكثيرين؛ لأنه كئيب ويُثير الكآبة- مثل يقول: "ادفنوا الميت ثمّ وزّعوا التركة". لماذا نريد تقسيم التركة قبل دفن الميت؟ هذا يريد، وذاك غير راضٍ، ولا تعلم إن كان مَن يريد على حق أم على باطل، ومَن لا يريد له حق وهو صامت. وعلى رأي مثل آخر "المركب أم ريسين تغرق"، والمركب ذو الآلاف رؤساء ماذا يحدث له؟ كم من الفتن والمليونيات لم أعد أستطيع رصدها، كم من الطلبات والتي أيضا لا نستطيع رصدها، كم من الوقفات والاعتصامات والانتهاكات والسطو والنهب والسرقة والقتل والاغتصاب... ومَن يقول إن الثورة سُرِقت منه، ومن يقول إن فلان قد تسلّق على الثورة و.. و.. و... وأيضا كله لا نستطيع رصده. وبما أن هذه الثورة ثورة كل المصريين لا نقول من بدأ أو من دخل عليها، ولكننا جميعا لا بد أن نكون مؤمنين بها وبما قامت من أجله، ومن سيكون صانع الثورة الحقيقية هو من يعمل من أجلها ويرتقي بها حتى تفيد مصر والمصريين.. وليس من أطلق أوّل هتاف فقط (رغم احترامنا لهذا وذاك)، ولكن الهتاف وحده لا يصنع البلاد. متى سنرى وقفة جدية لها معنى وطعم ولون؟ وقفة حقيقية نتجمّع فيها على كلمة رجل واحد، نقول: نريد هذا أو لا نريد ذاك، بشكل واضح وطلبات محددة غير متفرّقة. طالبات ثابتة دون تعددات، وهذا يريد وذاك يفضّل، وأخيرا الكل يفعل ما يريد دون محاسب أو رقيب. كلمة واحدة تنطلق ويدوي صداها من الإسكندرية إلى الصعيد، والكل مقتنع قانع بها لا يريد غيرها.. تقدم للحكومة وللمجلس العسكري؛ لأنها طلبات الشعب المصري. وهذا لن يأتي إلا بتجنيب عوامل الاختلاف وتقوية ما هو متفق عليه والإصرار عليه، حتى نخرج من هذه اللحظة المقلقة إلى مرحلة تكون أيادينا بها أكثر حرية، وألسنتنا قادرة على النقاش والمحاكمة والمراقبة دون أن يحدث أي تضارب مع الجيش. يجب أن نسعى لأن نرى رئيسا لمصر يمسك الزمام؛ حتى لو لم يكن يحمل كل الصفات التي يريدها الشعب والنخبة على وجه التحديد الآن؛ فمدته لن تتخطّى السنوات الأربعة على الأرجح، ثمّ يتغيّر بعد ذلك إلى الأفضل فالأفضل حتى نقف على أقدامنا. فأنا على يقين بأن أي رئيس قادم لن يكون على درجة عالية من الجودة؛ ليس لأنه سيئ في شخصه، ولكن لأن تركة الفساد كبيرة والحمل ثقيل. فمتى نسرع بدفن الماضي وبتعيين الرئيس، ثمّ بعد ذلك نقف في تأنٍّ ونقوم بتوزيع التركة -بحلوها ومرّها- بما يرضي الله.. كلٌ يأخذ ما يستحق، ودون تلك الفوضى التي أصبحنا عليها؛ حتى إنني أخشى أن كثيرين آمنوا بالثورة في بدايتها، ثمّ بدأ هذا الإيمان في الاهتزاز، وبدأوا في إعادة حساباتهم. هل لم تعد مصر تهمّ أحدا؟!! هل نَسِي الجميع أن الهدف الحقيقي من الثورة هو رفعة مصر حتى ترتفع بأهلها؛ لأنها بلد متهالك لن يفعل شيئا لأبنائه؟ عندما نرى في ظلّ كل ما يحدث في مصر هناك من لا يزال يطالب بمطالب فئوية مادية صرف، وكل همّهم أن يرفعوا أجرهم بعضا من الجنيهات، ولا يهمهم من يرفع مصر حتى تستطيع أن ترتفع بهم. لا أقول إنهم غير مظلومين، بل على العكس أشعر أن النظام السابق قد أجحفهم بشدة؛ فترى موظفا في مصلحة يأخذ راتبا 500 أو 600 جنيه تعيش به أسرة من أب وأم وأولاد، لجميع مستلزمات الحياة.. أقول جميعها (جميع المستلزمات). وفي المقابل نرى -مع الأسف- مدير المصلحة أو المؤسسة يأخذ 60000 جنيه على الأقل، وفي الغالب يأخذ أكثر، لا تتعجّبوا هذا حادث فعلا، وأيضا يعيش بهذا الراتب نفس عدد أفراد الأسرة وتقضي به نفس المستلزمات. ولكن هذا في الحضيض وهذا بأعلى أعلى جودة؛ فهل هذا يرضي الله؟ فإذا خفّضنا راتب المدير إلى النصف، انظر النصف الباقي ماذا سيفعل بباقي موظفي المؤسسة!! كل هذا حقّ وحقّهم بشدة، ولكن لكل شيء وقت وأوان، فإلى متى سوف تظلّ الوقفات والاعتصامات، وربما لا تفضي إلى شيء مهم؛ لأن الجميع يعلم أن البلد يكاد يغرق، فلا بد من إنقاذه أولا ثمّ نبدأ بمطالبته بحقوقنا. الموقف الأخير وما حدث في ماسبيرو، ها هو مزيد من التفرق.. البعض يقول: "المسيحيون على حق والجيش قتلهم"، والبعض يقول: "الجيش على حق.. والمسيحيون بدأوا؟".. ثمّ ماذا هل سنصل حقا لحل؟ هل في خضم كل هذا الاضطراب سيظهر الحق ويحاسَب المخطئ؟ بكل أسف لن يحدث، ولذلك الحل الوحيد أن نلمّ شتاتنا الآن، ونقف يدا واحدة مسلما ومسيحيا وفي وحدة اتحاد؛ حتى نصل لبرّ الأمان، ولحكومة منتخبة نستطيع أن نطالبها بالحقوق دون أن نتهم أننا نهين الجيش أو غيره. لنقف صفا واحدا، ويضع كلٌ منا حقوقه -وأقول حقوقه لأنها حقوق مشروعة بالفعل- جانبا حتى نصل للحظة السليمة للمطالبة بالحقوق؛ سواء أكانت حقوق إخوتنا في الوطن أو حقوق المضطهدين ماديا، أو حقوق العمّال، أو حقوق الأطباء أو سائقي النقل... إلخ. لننقذ بلدنا من الغرق، ولندفن الماضي الفاسد، ثمّ لنقسّم التركة أو التورتة -كيفما تكون- ليبدأ كلٌ منّا في أخذ حقّه، وإعطاء ما عليه من واجبات، أما ما يحدث الآن فلن يوصلنا إلا للغرق. فلا بد أن تكون وحدتنا وحدة اتحاد، لا وحدة توحُّد..