في كل سفر صيفي إلى مرسى مطروح تتاح لي فرصة ممارسة القراءة التي كنت قد أقلعت عنها منذ زمن، وسط كومة انشغالات لا تنتهي، والمشكلة أنك لا تعرف تفاصيل تلك الانشغالات، ولا جدولة الوقت الذي يمضي بلا حساب سوى حسابات الحضور والانصراف ومواعيد التسليم وخصومات التأخير! في هذه المرة كان برفقتي دراسة ضخمة عن ثورة 25 يناير، وإبراهيم فرغلي في "ابتسامات القديسين"، ثمّ ألبير قصيري وقاطني "منزل الموت الأكيد".. أعرف إبراهيم منذ سنوات عدة؛ لكنها المرة الأولى التي أتعرف فيها على ألبير قصيري، ولربما كانت ممارسته الكتابة بالفرنسية، ثمّ قلة أعماله التي لم تتعد سبع روايات ومجموعة قصصية وديوان شعر؛ بل وحتى لقبه الذي خلعَته عليه الصحف الفرنسية "المنسي من الجميع"؛ لربما كانت كلها أسبابًا تُبرّر عدم معرفتي به ولا بعالمه الذي لا يسكنه إلا الكسالى، فاقدي الرغبة في كل شيء إلا الموت في أماكنهم. الرواية مكتوبة في عام 1992؛ أي في التوقيت الذي لم تكن مصر قد تحوّلت فيه بعد إلى تلك الخرابة التي عرفنا معالمها في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة؛ إلا أنها -وبدقة- تصف حال البيت الذي سكنته مجموعة من البشر، الواقعين حرفيًّا خارج نطاق الحياة.. منزل آيل للسقوط، ينتظر الجميع لحظة وقوع جدرانه وأسقفه -أو ما تبقى منهم- لتنهي حياتهم التي لا يعتبرونها هم أنفسهم حياة، ربما لذلك لا يتحرك أحدهم، وكل منهم آيل للسقوط في داخله، خطوة واحدة قد تُسقطه؛ لذلك كانت أقوى خطواتهم -كالحجر- الوقوف في انتظار لحظة الانهيار وكلمة النهاية. مالك المنزل سي خليل الذي يمنّ على سكانه أن أسكنهم ذلك الحطام الذي ينتظر دفعة ريح ليتحول إلى أنقاض.. سي خليل الرجل المسنّ الذي يُقامر بحياة ساكني منازله الآيلة للسقوط في أنحاء القاهرة، ولا يزال محظوظًا، أو أن مستأجريه هم المحظوظون؛ فلم يمت منهم أحد! يأتي سي خليل إلى المنزل ليشاهد الشقوق والحوائط المتساقطة، والأنقاض التي يسند بعضها بعضًا؛ فيقسم بالله أن الأمر جد بسيط، وأن البيت متين كهَرَم خوفو.. يأتي بأحد الخبراء -مهندس مزيف- ليُقنع السكان بأن البيت يمكنه الاستمرار مائة عام أخرى، ثمّ يدرك أن عبد العال هو المسئول عن استحضار شبح تمرد بين السكان، فيحاول استقطابه إليه، وقد رأى فيه بذرة معارضة، قلة مندسة تُبدي ضوضاء يخشى أن تنتقل عدواها إلى باقي السكان الطيبين الأليفين المسالمين الخنوعين ال... عبد العال على ضعفه وجهله وفقره؛ إلا أنه يملك أفكارًا مقاوِمة؛ بعكس بقية السكان الذين لم تترك لهم مآسيهم من الوقت ما يكفي للفهم؛ ولذا فهُم يرددون بحكمة: أن البؤس الذي يعهدونه أفضل من بؤس يجهلونه وغريب عنهم! هل يذكرك هذا بشيء من قبيل "اللي نعرفه أحسن من اللي مانعرفهوش"؟! "لذلك كان يزجرهم بشكل مستمر حول لامبالاتهم كحيوانات فقيرة كسولة، يسببون له مختلف أنواع العصبية؛ فلا يعرفون سوى الحياة في خزي وهم فرحون بالشكوى.. برغم أنه هو نفسه لا يستطيع حل المشكلات التي تنهشه، وهو فيها أيضًا يتسم ببساطة بدائية عقلانية؛ فليست لديه سوى أفكار غير محددة؛ كي يفهم ويمسك بالأسباب الخفية لحظة البائس..". يقف عبد العال أمام سي خليل ليخبره الحقيقة: "أريد أن أخبرك يا سي خليل أن المنزل لنا، ودوننا لا يساوي شيئًا مطلقًا". أما باقي السكان فالحوار التالي يلخّص وجهة نظرهم ببساطة: - ألا تعرف أن المنزل سوف ينهار؟ - أجل أعرف؛ ولكن ماذا يمكن أن أفعل؟ - ألستَ خائفًا؟ - على العكس يا بنيّ؛ فمنذ أن عرفت أنه سينهار وأنا لست خائفًا؛ ففيما قبل كانت هناك العديد من المآسي تلاحقني؛ لكن الآن لا توجد سوى مأساة واحدة أقل صعوبة في مواجهتها.. إن مأساة واحدة لأَمر رائع؛ ففيها سيحلّ الموت! يرحل سي خليل ويقرر عبد العال نقل الصراع إلى مستوى أعلى، ومن ثمّ تبدأ رحلة البحث عن واحد يعرف القراءة والكتابة؛ ليكتب لهم خطابًا إلى الحكومة؛ فلا يجدون سوى أحمد صفا (الحشاش) الذي يبدأ خطابه إلى الحكومة بقوله: عزيزتي الحكومة! لكن المشكلة الحقيقية تبدأ حين يسأل سائلهم: ترى ما هو عنوان الحكومة؟ ولا أحد يجهل الإجابة عن هذا السؤال: - ليس للحكومة عنوان، ولا يعرف أحد أين تسكن، ولم يرها أحد! - ومع ذلك فهي موجودة. - من يعرفها؟ لا يوجد شيء مؤكّد في هذا العالم. وتبقى حالة عدم اليقين في موقف الحكومة التي يؤمنون بأنها تجاهلتهم؛ فقط لأنها مشغولة بأمور أخرى؛ لكن السؤال يبقى: ماذا يمكن أن يشغل الحكومة؟! فالسكان يمكنهم أن يموتو، والحكومة عليها ألا تزعج نفسها أبدًا من أجل أفواههم القذرة. وحين يصل عبد العال إلى هذه الحقيقة؛ فإنه يقرر أن يبدأ مخططه الأخير للمقاومة، ولأن المأساة مشتركة؛ فإنه يؤمن أن المقاومة كذلك لا بد أن تكون مشتركة.. يبدو لمّ الشمل وتوحيد الصف حتميًّا في تلك اللحظات: - يجب أن نكون حزمة مترابطة، لا يجب على أحد منا أن ينفصل عنها لننسى مرة كل ما يفصلنا، ليس هذا هو الوقت الذي نختلف فيه، أعطني يدك فنحن جميعًا نغرق في نفس المأساة. أما سي خليل فكان لا يزال على إيمانه بأنه ليس لديه ما يخشاه من ناس بهذا البؤس؛ لكن عبد العال يمثّل حالة استثنائية، ويبدو أنه سيصبح خطرًا بمرور الوقت، يجب أن يعقد اتفاقًا مع هذا الرجل، ولربما منحه بضعة قروش.. لكن ما لم يعرفه سي خليل أن الوقت قد فات، وأن عليه أن يواجه على الأرض حقائق جديدة؛ فلم يعد هو المالك الماكر والجلاد الذي لا يعرف الرحمة حين أتى ليخنق الشعب؛ لكن الشعب الآن هو الذي يمسكه بيديه المتورمتين ويخنقه؛ بينما هو يصرخ دون انقطاع: أنا صاحب البيت! أنا صاحب البيت! بينما صوت عبد العال يأتيه من بين الحطام والظلمة والبؤس: - ألم تفهم أنني لست وحيدًا؟ لست أنا الذي أخافك؛ ولكن كل هؤلاء الناس الذين يؤمنون بكلماتي، إنهم يقفون خلفي؛ ألا تراهم؟ سمع سي خليل هذا الصوت الذي ينطلق في الليل.. إنه صوت الشعب الذي يستيقظ وسوف يخنقه قريبًا، وكل دقيقة تمرّ تفصله عن حياته السابقة؛ فالمستقبل مليء بالهتافات، المستقبل هو الثورة، كيف توقف هذا النهر المتدفق والذي سوف يُغرق المدن.. تخيّل سي خليل المنزل يتحول إلى أتربة وركام، ورأى الأحياء يظهرون بين الموت، لا إنهم ليسوا موتى؛ فيجب أن يأخذهم في الاعتبار عندما يهبون من رقادهم بوجوههم الدامية وعيونهم المنتفخة..". هل يبدو لك أي شيء مما سبق مألوفًا؟ ترى لو وقعت هذه الرواية بين يدي عام 1992، هل كانت لتحمل ذات المعاني والإشارات التي تناثرت بين سطورها وكأنها مكتوبة اليوم فقط؟ لا يزال الأدباء يمارسون دور الأنبياء، ويكشفون لنا من حجب الغيب ما يكشفه لهم إلهامهم؛ فالطبيعة تقلّد الفنان، والتاريخ فقط يمشي على آثارهم ليبلغ الحقائق التي عرفوها منذ زمن.