المؤامرة -أية مؤامرة- لا بد لها من ثلاثة أطراف: مُتآمِر, مُتآمَر عليه ومُتآمَر لأجله. الأول هو صاحب المؤامرة, الثاني ضحيتها المنشودة, أما الثالث فهو المكسب الذي ينتظره الأول من التآمر على الثاني! وهذا هو -أعني المكسب- مربط الفرس هنا. وما دمنا نتحدث عن الحضارات الأولى؛ فالمكاسب الأساسية -بطبيعة الحال- كانت ترتبط عادة بالغذاء والماء وثروات الأرض من معادن وخلافه. وتطلع جماعة بشرية للاستيلاء على الموارد الطبيعية لجماعة أخرى أمرٌ ليس بعيدا عن حاضرنا؛ بل إنه محور الصراعات الدولية المعاصرة, فقط تغيرت محركات الأطماع من "آبار المياه ورؤوس الماشية والأرض الخصبة" إلى "البترول واليورانيوم والغاز الطبيعي", أي أن كل ما تبدل هو الزمن ومكوناته. بالطبع لا يمكن إغفال الأطماع الأخرى كرغبة فرد في زعامة جماعته أو رغبة جماعة في تزعم جاراتها؛ ولكني هنا أتناول المحركات البدائية للحضارات, المرتبطة بإشباع الاحتياجات الأولية فحسب. في الحضارات الأولى والحضارات القديمة -بالذات النهرية- كمصر والعراق, قامت على هجرة جماعات بشرية إلى وديان الأنهار والاستقرار عندها بعد حياة الترحال الشاقة, وبطبيعة الحال نشأت نزاعات بين عائلات وقبائل تلك الجماعات حول الأماكن الأصلح للزراعة, أو الأنسب للرعي, ثم تلت تلك النزاعات عملية توحيد -بالقوة أو اللين- لتلك الجماعات في الشكل الأول للدولة, كما حدث في مصر عندما توحدت قبائل الشمال في دولة والجنوب في أخرى، ثم وحدهما مينا بعد حروب عنيفة. عملية الوحدة لم تكن تنزع عن الأذهان الحروب السابقة لها على مصادر الماء والغذاء, وإدراك الحكام أن أراضي دولتهم تمثل مطمعًا لجيرانهم, وأن عليهم افتراض سوء نية الجار حتى يثبت العكس! كانت تلك هي بداية نشأة "نظرية المؤامرة" في صورتها الأولى؛ تلك الصورة التي تطورت لتتحول -كما قلتُ في الجزء الأول- لفن كامل له أساليبه ومدارسه. ولا ننسى هنا أن نلاحظ حقيقة أن إدراك المرء قدرة غيره على التآمر تعني -بطبيعة الحال- قدرته الشخصية على فعل نفس الشيء؛ بل لعل تآمره وتخطيطه للاستيلاء على ما للغير يكون دافعًا ليفترض فورًا المثل. وتلك نقطة جديدة نلاحظ تشابهها مع ما يسود عالمنا الآن من "تبادل لافتراضات سوء النوايا"؛ فالمدقق في السياسات الخارجية للدول يلاحظ أن أكثر الدول اتهامًا للآخرين بالتآمر عليها هي أكثر الدول تورطًا في أعتى المؤامرات على هؤلاء الآخرين, سواء بشكل مباشر أو غير مباشر! التعامل مع الفكرة لم يتوقف حكام الدول القديمة عند "افتراض الشر" من الغير؛ بل سارعوا بالتعامل معه بشكل بارع جدًا؛ فقد استغلوا النظرة البدائية من الشعوب لملوكها أنهم "رسل الآلهة إلى الأرض" أو "من حلّت فيهم روح الإله" وبثوا بين الناس ما يريدون من أفكار عن "الآخرين". ففي مصر, كانت الفكرة العامة أن المصريين ينحدرون من ملوك أرضيين ارتفعوا إلى السماء وصاروا آلهة, وأن الشعوب الأخرى تنحدر من "أعداء الآلهة", وفي العراق حيث كانت للملك صفتان -بشرية وإلهية- كان يستغل ذلك لتوجيه شعبه ضد أي شعب يرغب في توجيه الضربات إليه؛ أي أن ما كان يجري كان يشبه ما تفعله المؤسسات الإعلامية الموجهة من الحكومات لتحريك الشعوب, بالذات خلال فترات الأزمات والحروب الكبرى. ولكن لأن الدول -رغم ثراء مواردها- لا تستطيع الانعزال عن العالم؛ فقد كان لابد للحكام من التحكم ب"مستوى افتراض الشر من الغير"؛ فكانوا يبثون ما يخفف منه عند العامة في أوقات السلم والاحتياج للتبادل التجاري -والحضاري بشكل عام- مع الآخر؛ بينما كانوا يزرعون كراهيته والتوجس منه في فترات النزاع. وجدير بالذكر أن تلك السياسة كانت في أوجها خلال القرون الأولى من عمر تلك الحضارات القديمة؛ ففي ذلك العصر, كانت الدولة لا تزال في الصورة البدائية, فالعراق -مثلاً- لم يكن موحدًا؛ بل كان يحكمه نظام "المدينة = دولة"، وكانت كل مدينة/دولة تجد في نفسها القوة تسيطر على جاراتها. ومصر لم يكن لديها جيش دفاع موحد منظم قبل عصر الدولة الحديثة؛ بل كان لكل أمير رجاله, وكان الدفاع عن الدولة يتطلب جمع رجال كل أمير وحشد العوام ممن يستطيعون القتال وتوزيع السلاح عليهم. أي أن أوضاع ممالك العالم القديم كانت تحتاج بشدة للتوجيه الشعبي أو ما يشبه في العصر الحديث "وزارة الدعاية" في ألمانيا النازية أو "وزارة الإرشاد القومي" في مصر خلال عهد عبد الناصر. لم تتوقف الفكرة عند "الدفاع ضد مخططات الآخرين"؛ بل تطورت للهجوم عليهم -خلال العصور التالية- وبدا ذلك بارزًا في حروب الدولة الآشورية العراقية وغزوها لجيرانها. وفي مصر فيما بعد طرد الهكسوس من البلاد؛ حيث تبنت دولة آشور فكرة "غزو بلاد أعداء الإله بأمر هذا الأخير عقابًا لهم على إضمارهم الشر ضد شعب الإله". وفي مصر -بالذات في عهد تحتمس الثالث- نشطت حركة التجسس على الجيران وظهرت فكرة "غزوهم قبل أن يغزونا هم"؛ مما يعني أن التآمر والتخطيط لمهاجمة الآخرين كانت باسم استباق الشر بالشر, وهو يشبه كثيرًا ما حدث من أمريكا -في عصرنا هذا- ضد العراق أو ما جرى من إسرائيل من مشاركة في العدوان الثلاثي على مصر في الخمسينات والاجتياح للأراضي اللبنانية في بداية الثمانينات، ويشبه كذلك ما جرى من اليابان من مهاجمة ميناء بيرل هاربر الأمريكي -خلال الحرب العالمية الثانية- من منطلق توجيه ضربة استباقية لأمريكا -التي لم تكن قد دخلت الحرب بعد- بناء على معلومات تقول إن أمريكا تجهز لمهاجمة اليابان. خلاصة تلك النقطة من حديثنا أن الحكومات القديمة ابتكرت نظام "حشد وتوجيه الشعوب ضد أعداء محتملين" من خلال بث فكرة "تآمر هؤلاء الأعداء على الوطن" وضرورة استباقهم بالردع. وهي نفس الفكرة التي تطورت عبر العصور حتى صارت تمارسها المؤسسات الإعلامية الرسمية والموجهة والجهات المتحدثة باسم الحكومات, بعد أن كانت تصدر عن قصر الملك أو كهنة معبد الإله, وصارت الآن مدعومة بالتقارير المخابراتية وصور القمر الصناعي بعد أن كانت قديمًا تُدعَم باعتبارها "وحيا من الإله لكهنته". نتائج تطور الفكرة تلك الفكرة -المؤامرة- وتطورها في العصور القديمة أدى لتطور مماثل في آليات التعامل معها؛ فقد أدت لتطوير أساليب التجسس, كما جرى في عهد تحتمس الثالث. وكتب القدماء -المقدسة أو الأسطورية- وردت في بعضها حكايات تنم عن اهتمام القدماء بذلك الشِق؛ ففي كتاب "بدائع الزهور في وقاع الدهور" ينقل المؤرخ المملوكي ابن إياس أساطير عن مصر القديمة تقول: إن أحد الملوك كانت لديه مرآة يرى فيها ما يجري في البلدان المجاورة, وأن آخر جعل على باب مصر ممرًا من تماثيل معدنية إذا مر من بينها من يضمر في نفسه شرًا بمصر خرجت من أفواه التماثيل نار أحرقته, وعن آخر جعل في ميادين مصر تماثيل إذا دخلها غريب صاحت "غريب! غريب!" حتى يغادرها.. كما أن في كتب اليهود سيرة البطل "جدعون" الذي عمل على دس الجواسيس بين أعدائه ليعرف أسرارهم ونقاط ضعفهم, وقاده ذلك للنصر عليهم؛ أي أن القدماء اهتموا ب"معرفة ما يضمره الآخر نتيجة لنمو فكرة "المؤامرة" في ضمائرهم. كما ساهم تطور الفكرة في نمو وتطور عملية "توجيه المؤسسة الحاكمة" للشعب, وهي الوظيفة التي تقوم بها الآن معظم الحكومات وما في صفها من مؤسسات إعلامية؛ بينما كانت قديمًا تتم بفعل الملك والكهنة. وبعد أن كان دعم فكرة "تآمر الآخرين ضد الوطن" يعتمد على ما للملك والكهنة من مصداقية باعتبارهم "رجال الإله" صار يعتمد على تقارير المخابرات وصور الأقمار الصناعية والوثائق، ولم يتوقف الأمر -قديمًا وحديثًا- على التعامل مع أخطار حقيقية؛ بل كثيرًا ما استُخدِمَت فكرة المؤامرة لتبرير عمل عدائي لا مبرر عادل له, أو لتكون ذريعة لفرض الحكام بعض القوانين التعسفية على شعوبهم من منطلق أن "الوطن يمر بمرحلة خطر!". رأينا هذا على مر العصور, من بابل القديمة إلى الاتحاد السوفيتي وسياسة الستار الحديدي, انتهاءً بأمريكا وعهد بوش الابن, ودول العالم الثالث البوليسية. الخلاصة كانت نظرية المؤامرة إذن سلاحًا ذو حدين؛ فقد لعبت دور المبرر لعدوان الإنسان على أخيه الإنسان أحيانًا, وأحيانًا أخرى كانت بمثابة الدرع الواقي للحضارات القديمة من أخطار حقيقية تتهددها من جيرانها الطامعين؛ فضلاً عن دورها في تطوير "أدوات اكتشاف وفهم الآخر"؛ تلك الأدوات التي إن كانت قد نشأت لأغراض الحرب والغزو والاستعمار؛ فإنها -رغمًا عنها- عملت لأجل أغراض التقارب بين الإنسان وأخيه الإنسان. لكن عجلة التطور لم تتوقف؛ فبعد عصور سيادة الممالك العظيمة القديمة في مصر والعراق والشام, جاء عصر تالٍ اتخذت فيه فكرة المؤامرة أشكالاً أخرى من حيث التخطيط والتنفيذ.. ذلك العصر الذي نشأت فيه لأول مرة فكرة "الدولة العالمية" على يد اليونان والرومان.. (يُتبَع) مصادر المعلومات 1- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن. 2- بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس. 3- جواسيس جِدعون: جوردون توماس. 4- أساطير اليهود: لويس جنزبرج. 5- اليهود واليهودية والصهيونية: د.عبد الوهاب المسيري. 6- العولمة: د.جلال أمين. 7- عولمة القهر: د.جلال أمين. 8- عصر الجماهير الغفيرة: د.جلال أمين. 9- المجمل في تاريخ مصر: د.ناصر الأنصاري. 10- التحالف الأسود: ألكسندر كوكبرن- جيفري سانت كلير. 11- نظرية الواحد في المائة: رون سسكند. 12- اغتيال الديمقراطية: عبد القادر شهيب. 13- التجسس الدولي: د.محمود سليمان موسى. اقرأ أيضا: تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (1)