إن العالم العربي بحرٌ بلا ماءٍ كبحر العَروض حتى يتخذ محمدا -صلى الله عليه وسلم- إماماً وقائداً لحياته وجهاده، وينهض برسالة الإسلام كما نهض في العهد الأول، ويخلِّص العالَم المظلوم من براثن مجانين أوروبا، ويوجِّه العالم من الانهيار إلى الازدهار، ومن الخراب والدمار والفوضى والاضطراب، إلى التقدم والانتظام والأمن والسلام، ومن الكفر والطغيان إلى الطاعة والإيمان، وإنه حق على العالم العربي سوف يُسألُ عنه عند ربه فلينظر بماذا يجيب؟! هذه بعض كلماته.. فمن هو؟ نلتقي اليوم مع شخصية مختلفة.. يتّضح من خلال تناولنا لها أننا لا نتجوّل فقط في الزمان نتنسم عبير أعلام الإسلام من فقهاء وحفاظ ومحدثين ومفكرين ورواد للحركة الإسلامية قديمها وحديثها، ولكننا أيضا نتجوّل في المكان، نسيح في أرجاء الكرة الأرضية، نكشف عن زهور عبّقت بعبيرها تاريخ الإسلام، برغم أنها لم توجد في قلب أرض العاصمة الإسلامية الجزيرة العربية أو أجوارها.. وحتى لا نطيل في المقدمة نكشف عن الغائب الحاضر زهرة اليوم التي نقطفها من أقصى شرق الكرة الأرضية.. من الهند.. الأرض التي سطرت جزءا كبيرا من تاريخ الإسلام.. نتحدث اليوم عن العلامة أبي الحسن الندوي.. وُلد السيد أبو الحسن علي بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني الندوي بإحدى قرى الهند في عام 1913 في أسرة لها في علوم الإسلام باع طويل، وينتهي نسبها إلى علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- تلقّى في بداية حياته العلوم الدينية، وتعلّم اللغات الأردية والفارسية والعربية والإنجليزية، فازداد تبحّرا في مختلف فروع العلوم بلغاتها الأصلية، مما جعل له مكانة خاصة في مجتمعه، وأخذت مكانته الدينية تترقى حتى عُيّن مدرسا في دار العلوم لندوة العلماء وعمره 21 عاما، وهي جامعة عريقة تمثّل الإسلام الوسطي في الهند، تأسّست للحفاظ على الإسلام في الهند من الاندثار كما حدث في الأندلس.. هذا عن علمه.. فماذا عن عمله؟ لم يكن الداعية أبو الحسن الندوي ممن يحمل العلم ولا يعمل به، بل كان رحمه الله جذوة من النشاط والحركة في سبيل الإسلام، فجعل يتنقل في رحلات دعوية شاقة في ربوع الهند؛ يعلّم فيها الناس ويربّيهم على منهج الإسلام كما تعلّمه وسطيا يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأسس مركزا للتعليمات الإسلامية يدرس فيه القرآن والسنة، ثم شارك في تأسيس مجموعة نيرة من الهيئات الدعوية والتعليمية بالهند والعالم، يأتي على رأسها رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ووصل إلى درجة الأمين العام لندوة العلماء عام 1961 وهي درجة علمية ودينية رفيعة.. علم الندوي ورحلة الربط بين العرب والهند كان الشيخ أبو الحسن الندوي مرتبطا بالعالم العربي إلى حد بعيد، وقد حرص على ترسيخ هذه العلاقات وتقوية أواصرها من خلال مؤلفاته وتحركاته؛ فقد قابل أعلام الإسلام في العالم العربي واحدا واحدا، وكانت شهرته بكتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" قد سبقته، فلقي حفاوة بالغة من العلماء؛ يتحدث عنه الشيخ محمد الغزالي فيقول: "عندما قرأنا للداعية الإسلامي الجليل العلامةِ أبي الحسن الندوي رسائلَه التي سبقت مقدمَه إلى مصر، ثم عندما قرّت عيونُنا برؤيته وطابت نفوسُنا بعِشرته، تأكدت لنا هذه الحقيقةُ الكريمة وزِدنا بها إيماناً، وهي أن الإسلام على اختلاف الأمكنة والأزمنة يصنع نفوسَ أتباعه على غرار واحد، ويجعل المَشابِهَ قريبةً جداً بين نظرتهم إلى الأشياء وأحكامهم على الأمور".. وثّق العلامة الندوي علاقاته بالعالم العربي الذي كان يراه مفتاح النهضة الإسلامية لأنه مهبط الرسالة؛ قد عاش سقوط الخلافة الإسلامية في 1924 فآمن بوجوب بعث الإسلام ومواجهة الغزو الفكري، وكانت تُنشر له مقالات بالعربية في مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا، ونشر بالعربية كتابه "مختارات في أدب العرب"، وكتابه الأشهر "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، وألقى محاضرات في جامعة دمشق جُمعت فيما بعد في كتابه "رجال الفكر والدعوة في الإسلام"، وتولى كتابة افتتاحيات مجلة "المسلمون" الصادرة في دمشق، وله مقالات في مجلة "الفتح" للشيخ محب الدين الخطيب، وكذلك له محاضرات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بدعوة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ومحاضرات بجامعة الرياض، وتحدّث عن الإخوان المسلمين في كتابه "منذ خمسين عاما أريد أن أتحدث إلى الإخوان"، وهو كتاب قيّم قدّم له الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.. موقفه من الحركة الإسلامية كان من أهم ما يميز العلامة الندوي أنه كان على مسافة مقاربة من جميع التيارات الإسلامية المعاصرة، وكان على صلة وثيقة بأعلامها وروّادها، سواء منها السلفية أو الصوفية أو الإخوانية أو غيرها، وقد أتاح له هذا القرب أن يدرس مناهجها، ويتعرّف على أفكارها عن قُرب، وقد سجّل رحلته هذه مبينا خلاصتها موجها النصائح لرجالها، فقال: "أصبحت أعتقد بعد زيارة بعض البلاد العربية والاطّلاع على أحوالها، أن حركة الإخوان المسلمين إذا قَوِيَت وانتظَمَت على خطوط ثابتة، هي المنقذ الوحيد بحول الله تعالى للعالم العربي من الانحلال والاندفاع القوي إلى الهاوية، لذلك أصبحتُ أُعَلّقُ عليها أهمية كبيرة، وأحمل لها بين جوانحي حبّاً عميقاً". مكانة الشيخ في بلاد العرب قدّرت المؤسسات والهئيات الدعوية والعلمية العربية الشيخ أبا الحسن الندوي، فكان نجما في إداراتها وهيئاتها التأسيسية، وفي العرض القادم لمناصبه في بلاد العرب تجده ضيفا بارزا في كل المحافل العربية: اختير عضوا مراسِلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1956. وأدار الجلسة الأولى لتأسيس رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عام 1962 نيابةً عن رئيسها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي السعودية. اختير عضواً في المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منذ تأسيسها عام 1962. اختير عضوا مؤازراً في مجمع اللغة العربية الأردني عام 1980. تمَ اختياره لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1980. اختير رئيساً لمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية عام 1983. اختير رئيسا عاما لرابطة الأدب الإسلامي العالمية عام 1984. اختير عضوا للهيئة الاستشارية لمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الصادرة عن جامعة الكويت. أقيمت ندوة أدبية حول حياته وجهوده الدعوية والأدبية عام 1996 في تركيا، على هامش المؤتمر الرابع للهيئة العامة لرابطة الأدب الإسلامي العالمية. منح جائزة الشخصية الإسلامية لعام 1998، وقدّم له الجائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. مُنح وسام الإيسسكو من الدرجة الأولى من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (آيسسكو ISESCO)؛ تقديرا لعطائه العلمي المتميز، وإكباراً للخدمات الجليلة التي قدمها إلى الثقافة العربية الإسلامية. وهكذا.. من سوريا إلى السعودية إلى الأردن إلى الكويت إلى تركيا يسطع نجم الشيخ، ويتألق فقهه ودعوته.. وفاته في العشر الأواخر من رمضان وتحديدا في الثالث والعشرين من رمضان لعام 1420، الموافق 31 ديسمبر 1999 توفي العلامة أبو الحسن الندوي، بعد رحلة طويلة من العلم والعمل والجهاد بالكلمة، والربط بين أشتات العالم الإسلامي، والغوص في جراح المسلمين، وابتكار السبل لتوحيدهم، والعمل على جمع عقد الإسلام الفريد من جديد.. فرحمة الله على رجل وزّع حياته بين العلم والعمل، واسترخص في سبيل ذلك كل غالٍ وبذل فيه كل جهد.. أظنّ أننا بحاجة إلى أن نستذكر سيرة الشيخ أكثر وأكثر، ونستقصي تراثه بهمة أكبر؛ لأن تراثه جزء مهم من تراث الإسلام في القرن العشرين يستحق أن نوليه اهتمامنا؛ فقد ترك لنا ثروةً علمية كبيرة من المؤلفات الدعوية والفكرية والأدبية قاربت ثلاثمائة كتاب باللغة العربية فقط، فرحمة الله على الشيخ العلامة أبو الحسن الندوي، ونفعنا الله بما ترك من علم..