كان الرجل يمتلك عدداً من أثمن اللوحات التي رُسمت بريشة أكبر وأشهر رسامي العالم في عصر النهضة الأوربية وما بعدها، ومثّلت هذه اللوحات ثروة ضخمة لمالكها؛ ولكن هذا ليس كل شيء.. فقد مثّلت أيضاً عبئاً ضخماً يحمله بين كتفيه؛ إذ كيف يأمن على هذه الكنوز التي تفتح شهية كبار اللصوص المختصصين في سرقة الآثار والتحف الفنية؟ من الممكن أن يقول البعض: ما أسهل أن يضعها في خزانة بنك؛ حيث الحراسة المشددة والأقفال المتينة.. هي إجابة منطقية كعادتك أيها القارئ النبيه؛ ولكني نسيت أن أُخبرك بأن الرجل محب للفنون، وهو لا ينوي حجب هذه الكنوز عن جمهور المحبين، وهو أيضاً يودّ المحافطة على ملكيته لها، ولا يرغب في التبرّع بها للمتاحف العالمية.. إذن ماذا يفعل؟ لقد قرر الرجل أن يفتح متحفاً خاصاً به، متحف بلا حراسة، يستقبل الزوار في ترحاب ومودّة، دون تكلّف وترتيبات أمنية مشددة، ولماذا الحراسة؟ وما الحاجة إلى ترتيبات أمنية؟ متحف الفن المزيف فقد تمّ الإعلان عن أن هذا المتحف هو لعرض اللوحات المُقلّدة لعظماء الرسامين، وقيل إن هذه مجرد لوحات مزيّفة تمثّل صورة طبق الأصل من اللوحات الأصلية، رسمها رسامون شباب يمكنك أن تراهم وهم يواصلون عملهم أثناء تجوّلك في أركان المتحف، وأطلق الرجل على هذا المتحف الفريد مسمى "متحف الفن المزيف"، وأظن أن هذا هو نفس اسم الفيلم الذي عرض هذه القصة المشوّقة، وهو فيلم أمريكي قديم نوعاً ما. وما يهمنا من قصة ذلك الفيلم، هو ما حدث من الزوار أثناء تجوّلهم في أروقة المتحف؛ فهم من محبي الفن، ومن العاشقين لمعارك الألوان المتصارعة، أو المتعاونة على أرضية اللوحات؛ فهم يكادون يكونون خبراء في هذا المجال، أو هكذا يعتقدون. كان هؤلاء الخبراء -حسب اعتقادهم- ينظرون إلى اللوحات بأنف شامخة، ثم ينظرون إلى الشاب الواقف يمثل دوره بإتقان؛ وكأنه يضع اللمسات الأخيرة على اللوحة المقلّدة؛ بينما حقيقة الأمر أنه لا يلمس اللوحة؛ لأنه يعرف أنها حقيقية وتمثل كنزاً مادياً ومعنوياً لا يُقدّر بثمن. وبعد نظرة مدققة من هذا الرجل الخبير، وهذه المرأة الخبيرة يبدأون في نقد عمل الشاب؛ بعضهم يلوّح بيده بعصبية، والأخرى تصيح بكل قوة، ولكن هذه وتلك اتفقوا على أن هذا الشاب قد أهان الرسام العالمي صاحب اللوحة الأصلية؛ فاتجاه الألوان غير منتظم، ودرجة اللون كارثة، أما اتساق الخطوط فهو لا يرقى لتلميذ في الابتدائي. التحسر على الكبار وبالطبع فأغلب هذه الانتقادات الجائرة يتبعها وصلة مديح للوحة الرسام الكبير الأصلية، وتُختتم وصلة النقد بالتحسّر على زمن الفن الذي ولّى برحيل الكبار، وهم لا يعرفون ولا حتى يشكّون في أن هذه التفاصيل التي ينتقدونها، هي من صنع الفنان العالمي الذي يرثُونه بعباراتهم المتحسرة. إن ما فعله رواد هذا المتحف هو فعل عادي، وبات من سمات البشر في كل مكان منذ سنوات طويلة، وربما منذ بداية الخليقة. فنقد المبتدئ، ومحاربة رواد الأفكار، خصلة ليست قاصرة على مجتمعاتنا فقط؛ فهي صفة مشتركة للبشر؛ وإن كانت بدرجات مختلفة متابينة.
إن الجميع ينتظر أن يهبط عليه الناجحون وأصحاب الأفكار والإبداع من السماء، ولا يودّ أن يشجع شخصاً مبتدئاً، أصغر منه سناً، أو أقلّ خبرة في الحياة، أو أبسط منه في الدرجة العلمية. الهابطون بالباراشوت أما إذا هبط عليه هذا الشخص بمظلة هوائية من السماء، بلقب دكتور؛ حتى وإن لم يعلم من أين أتى بهذا اللقب بالضبط، أو بشهرة تلفزيونية مدوّية لا يفهم ما وراءها، أو بدعم من جهة رفيعة المستوى؛ رسمية كانت أو خارجية؛ فهنا يختلف الوضع، ويستمع إليه مهما قال أو فعل. وينسى مُدّعو الخبرة هؤلاء أن نفس هؤلاء الرسامين الكبار الذين يستأثرون بالمديح اليوم، كانوا في حياتهم ضحايا للتجاهل تارة، وللهجوم المتواصل تارات أخرى.
ولكنهم مع ذلك واصلوا المشوار ولم يتوقفوا، وفي النهاية بقوا وبقيت أعمالهم لتُذَكّرنا بأن السخرية والرفض والتوبيخ، هي علامات تقول لنا أحياناً: إننا على الطريق الصحيح، وعلينا أن نواصله للنهاية. فلا تُفاجأ صديقي العزيز إن واجهت سخرية من أفكارك، طالما كنت في مرحلة البداية.. ولا تنزوِ حزناً إذا ما اصطدمْتَ برفض جائر لمحاولاتك للنجاح وإثبات الذات. ولا تهرب أبداً إذا ما تعرّضت للتوبيخ على ما فعلت وتفعل؛ ما دمت متأكداً من أنك على حق.. فثباتك وإصرارك وإبداعك هو سلاحك الفعال للتغلب على الرفض. هذا أمر أنت تعيه تماماً؛ لكن ما أودّ أن أُخبرك به في هذا السياق، هو أن الرفض بوابة مرور لا غنى عنها، للوصول إلى النجاح الحقيقي في مصر أو أي مكان، وإن كنت لا تصدقني؛ فارجع إلى سِيَر الناجحين من أنبياء وعظماء ومؤثرين؛ فالكل رَفَض بشدة في بادئ الأمر، وجُلّهم كانوا هدفاً فعالاً للتوبيخ بلا مبرر، وكلهم تعرّض للسخرية بشكل مريع. لا تفاجأ من الرفض، وتوقّعْه، وحاول تجاوزه بالمزيد من العمل، ولا تنسَ أنك على الطريق الصحيح. فهل هذا صحيح؟