"أعتبر أن استقالتي صرخة احتجاج في وجه الأوضاع الحالية بالقضاء، بداية من عدم تنفيذ الأحكام القضائية، وإحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية، وتحويل أحكام البراءة إلى حبر على ورق إلى توغل النظام الحاكم وسلطته التنفيذية في السلطة القضائية".. كلها أسباب لم يكتبها المستشار محمود الخضيري نائب رئيس محكمة النقض عندما قدّم إلى المستشار ممدوح مرعي وزير العدل رسالة مقتضبة من سطور قليلة عبر فيها عن رغبته في الاستقالة من سلك القضاء بعد 46 عاما من العمل القضائي، منها 20 عاما في محكمة النقض.. صباح السبت 19 سبتمبر الجاري أعلنت الصحف عن تقديم المستشار محمود رضا الخضيري استقالة غير مسببة للمستشار عادل عبد الحميد رئيس محكمة النقض ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، عبر فيها عن عزمه الأكيد في ترك سلك القضاء والتقاعد معللا ذلك بأنه لا يستطيع القيام بعمله بالصورة التي تعوّد عليها في السنوات السابقة مع أنه: "كثيراً ما يؤنبني ضميري ويرتجف القلم في يدي خوفا من أن أقع في خطأ يتسبب في ضياع حق يحاسبني الله عليه يوم القيامة"، ولكن شيئا من ذلك لم يكتبه إلى المستشار ممدوح مرعي وزير العدل واكتفى برسالة رسمية قائلا: السيد وزير العدل.. تحية طيبة وبعد.. أتقدم لكم باستقالتي من عملي في محكمة النقض اعتبارا من (1/ 10/ 2009).. مع الشكر. القاضي/ محمود رضا عبد العزيز الخضيري نائب رئيس محكمة النقض. ردود أفعال القضاة إلى هنا لا توجد مشكلة في الأفق ولكن ردود الأفعال بعد ذلك كانت غير ما توقعه المستشار الخضيري نفسه، فقد توالت ردود الأفعال الغاضبة من الاستقالة أو المتهمة إياه بالرغبة في إحداث فرقعة إعلامية غير مبررة؛ بحجة أنه في الأصل كان سيتقاعد بشكل طبيعي في يونيو من العام القادم كما قال المستشار إسماعيل بسيوني رئيس نادي قضاة الإسكندرية في تصريح لجريدة الشروق عقب إعلان نبأ الاستقالة: "إن الخضيري يهدف للفرقعة الإعلامية، حيث إن استقالته ليس لها معنى؛ لأنه كان سيترك القضاء بعض بضعة شهور؛ لبلوغه سن التقاعد، وبالتالي "كان خارج خارج". تأتي هذه التصريحات للتقليل من أهمية الاستقالة في حد ذاتها ونفي لكل أسباب الخضيري في الاستقالة، مما دفعه إلى اعتبار ذلك رغبة في لفت الأنظار وحسب، مضيفا: "لا أعتقد أن أحوال القضاء بهذا السوء حتى يقدم قاضٍ جليل كالخضيري على خطوة كالاستقالة؛ لأن القاضي هو جندي من جنود الله يرسخ مبادئ العدالة في الأرض، فكيف يستسلم بهذه السهولة". لكن على الجانب الآخر الذي يرى وبوضوح أن الخضيري معه كل الحق في تقديم استقالته؛ لأن ظروف وأحوال القضاء لا تسرّ أحدًا، وتقف على رأس هذا الفريق المستشارة "نهى الزيني" نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية قائلة: "كنت متوقعة تصرف المستشار الخضيري منذ فترة طويلة وتقريبا منذ أكثر من عام؛ لأن العام الماضي شهد "تدخلات سافرة من السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية، ومرت كل هذه الأحداث، مشيرة إلى أن الخصيري كان يخرج من وقت لآخر ليحذر مما سيحدث، ولذلك فإن استقالته كانت متوقعة بالنسبة لي". وفي هذا يقول المستشار الخضيري نفسه إنه بالفعل كان قد قرر تقديم الاستقالة العام الماضي بالفعل ولكنه برر ذلك قائلاً: "ما منعني أن استقالتي كانت ستكون في منتصف العام القضائي مما قد يربك العمل وتكون في النهاية على حساب المتقاضين".. ومن ضمن فريق المتضامنين مع استقالة المستشار الخضيري يقف المستشار محمود مكي نائب رئيس محكمة النقض، فبالإضافة إلى أنه لم يفاجأ هو الآخر بتقديم الاستقالة إلا أنه أيّد الخضيري في أسباب تلك الاستقالة قائلا: "إن مبررات المستشار "محمود الخضيري" في تقديم استقالته هي وصوله إلى حالة من الضيق الشديد من القيود القضائية التي يلتزمها زملاؤه من التيار الاستقلالي في مواجهة السيطرة على القضاء، في الوقت الذي يميل فيه الخضيري إلى المزيد من الصراحة في التصدي لهذه السيطرة، بينما يرى العديد من زملائه في تيار الاستقلال أن التصدي لابد وأن يحدث من خلال خطوات محسوبة لا تُغضب النظام". المستشار الخضيري يرد إلى الآن لم يكن المستشار محمود الخضيري قد أدلى بأي تصريحات مستفيضة عن دوافع هذه الاستقالة التي جاءت بمثابة صدمة لعدد من شباب القضاة وخاصة الذين يكنّون له تقديرا كبيرا منذ موقفه أيام اعتصامات نادي قضاة الإسكندرية احتجاجا على إحالة محمود مكي وهشام البسطويسي للصلاحية بسبب كشفهما للتجاوزات التي حدثت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لكن صباح الأربعاء شهد حديثين مطولين للمستشار لصحيفتي المصري اليوم والشروق عبّر فيهما عن أسبابه التي تقف خلف الاستقالة بالإضافة إلى ردوده على الاتهامات التي تعرض لها عقب الإعلان عن وجود الاستقالة أمام المستشار عادل عبد الحميد رئيس محكمة النقض ورئيس المجلس الأعلى للقضاء.. فمن ناحية أحبط تلك الاتهامات التي وُجّهت إليه بشأن رغبته في لفت الأنظار وإحداث فرقعة إعلامية في إجابة واضحة على سؤال لمحرر المصري اليوم، فأجاب: "هذا كلام تافه ليس له معنى.. وفي الحقيقة لا يجب الرد عليه أصلا، لكن ما سأقوله فقط هو أنني لو أردت شو إعلامي لكنت قد أبلغت جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، كما كان بمقدوري الدعوة إلى مؤتمر صحفي خصوصا أني قدمتها منذ أسبوع تقريبا لرئيس محكمة النقض الذي أحالها بدوره إلى المكتب الفني للمحكمة، لكن ما حدث أنك كنت أنت أول من اتصل بي -ويقصد طارق أمين محرر المصري اليوم- لمعرفة حقيقة الأمر، وأنا لم أكن أنوي أن أفتح هذا الأمر في الوقت الحالي وكنت سأنتظر الوقت المناسب". الأسباب الحقيقية وراء الاستقالة ولكن المهم في استقالة الخضيري هو -في رأيي- تلك الأسباب التي ساقها والتي تقف خلف الاستقالة بداية من المضايقات والمشاكل والمعوقات الموجودة داخل القضاء، وفي المحاكم، وعدم تنفيذ الأحكام القضائية مما يصيب القضاة بالإحباط واليأس، ويثير غضبهم وسخطهم على السلطة التنفيذية التي تتعمد ذلك "على حد قوله"، بالإضافة إلى قوله: "إن الحكومة استطاعت أن تنقل للشعب الإحساس باللامبالاة بأحكام القضاء وعدم احترامها، فأصبح الواحد يتندر في المشاكل والخناقات بمقولة: "باب المحكمة قدامك روح اشتكيني"؛ لأنه أصبح يعلم أنه لن يحصل خصمه على حقه إلا بعد سنوات طويلة والنتيجة أن تتحول الدنيا إلى غابة وتضيع الحقوق، والحل البلطجية، واضرب وخد حقك بإيديك". لم يكن هذا فقط هو ما يزعج المستشار الخضيري بل إحالة المواطنين المدنيين إلى المحاكم العسكرية مما يعتبر ماسّا بكرامة القضاء، وتحويل أحكام البراءة إلى حبر على ورق؛ فبمجرد أن ينطق القاضي ببراءة متهم ما يقوم الأمن باعتقاله مرة أخرى ولا يسمح له بالخروج من باب المحكمة".. باختصار المستشار الخضيري يعاني من سلطة تريد اختراق المجلس الأعلى للقضاء وإخضاعه ليبقى دوره بلا فاعلية، رغم أنه الأداة الوحيدة للرقابة على تصرفات الوزارة مع القضاة، من حكومة تسعى للسيطرة على نادي قضاة مصر، وجعل اختيار مجلس إدارته بالتعيين وليس بالانتخابات، محبطا لا يتوقع أي انفراجة في الحياة العامة أو إصلاح حقيقي للأوضاع القائمة"، ولا مانع من وجود أسباب جانبية مثل عدم قدرته نفسياً وجسدياً على الاستمرار في عمله المجهد، خصوصاً وأنه يقترب من سن تقاعد القضاة، وهو 70 سنة حسب تعديل القانون في العام قبل الماضي. قبول الاستقالة بيد رئيس الجمهورية ولكن رغم تأكيد عدد من فقهاء الدستور في مصر أن قبول أو رفض استقالة المستشار محمود رضا الخضيري هو في يد رئيس الجمهورية وليس في يد المستشار رئيس محكمة النقض أو رئيس مجلس الأعلى للقضاء أو وزير العدل بحجة أن المعينين بالسلك القضائي بداية من معاون النيابة يتم تعيينهم بناء على قرار صادر من رئيس الجمهورية، وبالتالي فإن أي قرار بإقالتهم أو الموافقة على الاستقالة التي يتقدم بها من يعمل في هذا المجال يتم بناء على موافقة رئيس الجمهورية. لكن الخضيري نفسه يؤكد أن الاستقالة تمّت بمجرد كتابته لها، لكن القانون ينص على أن الاستقالة تقدم إلى وزير العدل أولا، مع التأكيد على أنها ستقبل؛ لأنها جاءت غير مسببة حتى لا يتم رفضها.. أيا كان الأمر فمازالت الاستقالة على مكتب وزير العدل والأمر لم يُحسم بعد، ولكن الذي سينال الكثير من الاهتمام هي تلك الأسباب التي تقف وراء استقالة شيخ من شيوخ القضاء المصريين، والتي نالت من السلطة التنفيذية واتهمتها بالغفلة والمسئولية المتعمدة مع سبق الإصرار والترصد عما وصل إليه حال القضاء والقضاة والمحاكم والمتخاصمين.. المستشار محمود رضا الخضيري مولود في 13/ 1/ 1940 بمحافظة سوهاج مركز طهطا، وحصل على ليسانس الحقوق عام 1963 بتقدير جيد من كلية الحقوق جامعة عين شمس وعُيّن بالنيابة في نفس العام، وتدرّج في السلك القضائي إلى أن أصبح نائب رئيس محكمة النقض كما انتخب رئيساً لنادي قضاة الإسكندرية في 7/ 5/ 2004م.