تموج أرض العراق بالمزارات الشيعية المقدسة، سواء في الجنوب أو في العاصمة بغداد، وبعد سقوط حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في 9 إبريل 2003 نال شيعة العراق وإيران حرية أوسع في الاحتفال بالمناسبات الشيعية في تلك المزارات والعتبات المقدسة. ولكن تلك الحرية اقترنت منذ اليوم الأول بالتفجيرات الانتحارية والمفخخة، وآخرها ما جرى منذ بضعة أيام في ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم، حينما سقط أكثر من خمسين قتيلاً جرّاء تفجيرات استهدفت زوار المرقد، ولم تكن تلك التفجيرات -كما سبق- هي الأولى من نوعها؛ فقد سبقها سلسلة من التفجيرات نالت المراقد نفسها كما جرى في 22 فبراير 2006 حينما تم تفجير ضريح الإمامين العسكريين الشيعيين في سامراء مما أدى إلى دخول البلاد في حرب أهلية خفية حتى هدأت الأمور عام 2008. ويلاحظ أن العراق شهد تحسناً أمنياً كبيراً في السنوات الأخيرة، وهو الإنجاز الوحيد الذي يُحسب لرئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي، ومع ذلك استمرت الهجمات الإرهابية تنال الاحتفاليات الشيعية الواحدة تلو الأخرى. وشهدت الاحتفالات بذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم العام الماضي هجمات انتحارية أوقعت عدداً ضخماً من القتلى والجرحى، ولعل تفجير ضريح الإمامين العسكريين الشيعيين في سامراء في فبراير 2006 يلقي الضوء على من يقف وراء تلك التفجيرات، ففي بادئ الأمر اتهم "موفّق الربيعي" -مستشار الأمن القومي العراقي وقتذاك- تنظيم القاعدة، وألقي القبض بالفعل على عدد من قيادات القاعدة العراقية، ولكن تنظيم القاعدة خرج ببيان في 26 يونيو 2006 يذكّر العراقيين بأنه حكم سامرّاء 8 أشهر كاملة دون أن يمسّ المقدسات الشيعية بالمنطقة ذات الأغلبية السنية، وأشار البيان إلى أن المرقدين في هذا اليوم خضعا لحراسة مكثفة من قبل ميليشيات شيعية تابعة لبعض السياسيين العراقيين. ورغم أن فرضية تورّط القاعدة أو أي من التنظيمات الإرهابية في تلك الهجمات يظل في دائرة الاتهام، ولكن من المهم توسيع تلك الدائرة من أجل ضخ أفكار جديدة؛ فهنالك من يرى أن الأمريكان يقفون خلف تلك الهجمات، وهو اقتراح وجيه في شكله، ولكنه مرفوض في مضمونه؛ لأن الأمريكان يسعون بشتى الطرق حالياً لتهدئة الوضع في العراق، والفرار منه عبر انسحاب مشرّف كما تسميه دوائر صنع القرار في أمريكا. ووسط تلك الأفكار هنالك أصوات سنية وشيعية معتدلة في العراق ألقت بفكرة هامة، ألا وهي أن العراق يوم تسيطر عليه ميليشيات محلية تابعة لأحزاب شيعية، وهذه الأحزاب بدورها موالية لإيران، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحدث تلك التفجيرات بعيداً عن تلك الميليشيات، وحتى لو حدثت فلا يُعقل أن تتكرر كل عام وفي نفس التوقيت، مما يعني أن تلك الميليشيات متورطة بشكل أو بآخر في هذه الهجمات. ويقول أنصار هذه الفكرة إن إيران تخوض مع العراق منذ قرون صراعاً لزعامة الطائفة الشيعية، وأن حسم هذا الصراع بين "قم" الإيرانية "والنجف" العراقي لن يأتي إلا بتوقف شيعة العالم عن الحجّ للمزارات والعتبات الشيعية المقدّسة في الأراضي العراقية، حتى لو اضطرت إيران لنسف تلك الأضرحة والعتبات المقدّسة، فإيران قبلت باحتلال بريطاني للنجف الأشرف عام 2003 رغم أن مرقد ومسجد الحسين (رضي الله عنه) موجود هناك، وهو أقدس مزار شيعي، فلا داعي للمبالغة في اهتمام إيران بسلامة المزارات الشيعية المقدّسة في العراق. وتتلقى الحوزات العلمية الشيعية في إيران والعراق تبرعات مادية مذهلة، مما يجعل مشروع تحويل قبلة الشيعة من العراق إلى إيران له بعد اقتصادي شديد الأهمية، بل ويوازي الأهمية الدينية للموضوع. والصراع على الزعامة الدينية أمر ليس بغريب على الشرق الأوسط أو حتى السياسة الدولية، ففي الشرق الأوسط سعت العديد من الدول والحكومات السنية لإضعاف الأزهر الشريف في الأوقات التي لعب فيها دوره التاريخي على أكمل وجه، كما كان الصراع بين العثمانيين والفرس له وجه ديني بين العثمانيين السنّة والفرس الشيعة، وتكشف لنا الوثائق الألمانية في الثلاثينيات أن ألمانيا النازية تعارض قيام دولة لليهود في أرض فلسطين حتى لا تقوى شوكة اليهود على المسرح السياسي. ولعل أغرب لغز أمني يواجهه العراق اليوم هو تلك الهجمات، بعد أن تم القضاء على تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين باستثناء بعض الذيول التي تقوم بهجمات يائسة هنا أو هناك، وانهيار ما يسمى بدولة العراق الإسلامية، وانحسار التوتر الداخلي في الشأن السياسي، فإن الهجمات التي تستهدف المزارات والمراقد الشيعية المقدّسة هي أكبر مشكلة أمنية يواجهها العراق اليوم.