كتبت في هذه المساحة من قبل "النضال الكيبوردي.. والفَتْي الإلكتروني" عن ظاهرة النضال خلف شاشات الكمبيوتر، وعبر أزرار الكيبورد، واتهامات الخيانة والعمالة التي تُلقى جزافا، ومفاهيم الوطنية والقومية، والصرخات، وبعبعة النت التي لا نرى لها أثرًا على أرض الواقع من مناضلين اقتصر صوتهم ونشاطهم على طرقعة الكيبورد!! والآن اسمحوا لي أن أعتذر وأن أغيّر رأيي تماما؛ فقد ثبت لي يقينا أن نضال الكيبورد يمكن أن ينتقل إلى الواقع، ويرتبط بأحداث بل يصنع أحداثًا ويغير أحداثًا أخرى! فمنذ مقتل الشاب السكندري خالد سعيد انتفض مجتمع الإنترنت، وأبى أن يترك هذه الجريمة البشعة تمر مرور الكرام، ونشط المواطنون الإنترنتيون للدفاع عن "خالد"، وللمطالبة بالقصاص ومعرفة الحقيقة، ولم تعد برامج التوك شو هي مصدرنا للأخبار عن هذه الحادثة؛ حيث اكتفت هذه البرامج بالإشارة إلى الخبر في دقيقة أو اثنين، بل البعض استقى أخباره وتقاريره من الشبكة العنكبوتية والفيس بوك.
وفبركت الصحف القومية القصص، وعمدت إلى تشويه القضية وتحويل خالد سعيد إلى مجرم ومدمن وأطلقوا عليه "شهيد البانجو"، ولكن لم يسكت الشباب الحر شباب الفيس بوك. فشاهدنا على الفيس بوك الفيديو الذي تردّد أنه السبب في مقتل الشاب خالد سعيد، وشاهدنا شهادة التجنيد، والتي تدحض ما قيل عن تهرّبه من الخدمة العسكرية، وشاهدنا حوارات مع والدة القتيل بالصوت والصورة تنفي تصريحات رسمية أذيعت في التليفزيون المصري مفبركة على لسان الأم المكلومة عن تعاطي "خالد" للمخدرات!!! وبل امتلأت الصفحة الرئيسية لجميع أعضاء الفيس بوك المصريين تقريبا بصور خالد سعيد قبل وبعد الحادث، وغَيّر المستخدمون صورهم الشخصية لصور خالد سعيد، وتحولت القضية إلى قضية رأي عام. وتوالت مبادرات الشباب لعمل المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والوقفات الصامتة للمطالبة بعمل تحقيق عادل، ورفض بيان الداخلية الذي يتهم خالد سعيد بالتهرب من التجنيد والسرقة والإدمان. وإذا قمت بعمل بحث على الفيس بوك عن "خالد سعيد" ستجد مئات الصفحات ومئات المجموعات (أكثر من 282 مجموعة) عن الشهيد. "كلنا خالد سعيد"، "أنا اسمي خالد محمد سعيد".. هذه أسماء أعلى المجموعات أعضاءً، ووصل أعضاء الأولى إلى 122.004 أعضاء، والثانية إلى 213.163 عضوا. وهذه الأرقام لم تكتفِ بعمل "لايك" لصور أو تعليقات، ولكن أنجزت منذ بداية الحادث: - الانفراد بأول نشر لصورة خالد سعيد بعد وفاته، والتي تُظهر العنف الذي تعرّض له، ثم توالت الصحف بعد ذلك لتتحدث عن الأمر. - عمل صفحتين على الفيس بوك "أنا اسمي خالد محمد سعيد"، و"كلنا خالد سعيد"، وانضم إليهما مئات الألوف. - أصدرت الداخلية بيانها حول الحادث، والذي كان مثار جدل كبير، ورفض الشباب البيان، ومارسوا ضغوطهم الإعلامية وعلى الفيس بوك ومن خلال المظاهرات، والتي شهدت اشتباكات واسعة مع الأمن، وبدأت وسائل الإعلام المحلية والعالمية تنقل الصور وأخبار المظاهرات والوقفات. - الرد على جميع اتهامات الصحف القومية التي أطلقت على "خالد" اسم "شهيد البانجو". - قرّر النائب العام تحويل القضية إلى نيابة الاستئناف، وتم إعادة التحقيق وتشريح جثة خالد، بعد أن ذكر تقرير الطب الشرعي الأول أن "خالد" مات بأسفكسيا الخنق نتيجة ابتلاعه لفافة بانجو!! - تنظيم العديد من المظاهرات والوقفات الاحتجاجية الصامتة في مناطق متفرقة بالقاهرة والإسكندرية، ومن المقرر عمل وقفة احتجاجية صامتة بالملابس السوداء الجمعة 25 يونيو بالقاهرة والإسكندرية. - عمل تصميمات ولوجوهات وبانرات وشعارات تم تداولها على الشبكة العنكبوتية تدين التعذيب، وتطالب بالقصاص لخالد سعيد. وأخيرًا أحيي شباب الفيس بوك وأشد على أيديهم؛ لأنهم أثبتوا أن الإنترنت والفيس بوك ليسوا للبعبعة ولا الفتي الإلكتروني فقط ولا للشات، وإنما ضربوا لنا مثلا يُحتذى به في صحافة المواطن، والتي تتغلب على أي توجيه أو إملاءات أو قيود تُفرض من قبل حارس البوابة الإعلامية. ضربوا لنا مثلا في الإخلاص لمصر ولنصرة المظلوم؛ فهم لم ينشروا هذه الانفرادات لنيل مكافأة ولا ترقية، ولا حتى لأكل العيش والحصول على راتب آخر الشهر أو بدل نقابة الصحفيين!! وإنما هو إخلاص وإيمان بقضية وطن. وما أحوجنا إلى هذا الإخلاص في هذه المرحلة الفارقة في تاريخ مصر.