السؤال الذي قد يشغل البعض منكم، وحتماً يشغلني طوال الوقت هو لماذا؟! لماذا كل هذا؟! لماذا يغلي المجتمع كله؟! لماذا التعصّب والتوتر في كل المجالات؟! لماذا أصبحت الأعصاب عند أطراف الأنوف؟! ولماذا أنشغل أنا نفسي بكل هذا؟! لماذا؟! لماذا؟! والواقع أنني مثل بعضكم، أبحث عن الجواب.. وهذا البحث ليس سهلاً.. أو بسيطاً.. أو هيّناً.. إنه بحث شاق.. مرهق.. متعب.. ومحيّر.. ففي بعض الأحيان، يبدو لي أن السبب الرئيسي هو الظروف الاقتصادية الصعبة، التي جعلت الناس تحيا في حالة من التوتر المستمر، عبر رحلة البحث عن المتطلبات اليومية الأساسية، في نفس الوقت الذي تستفزهم فيه مظاهر إسراف وبذخ لدى البعض الآخر، تصل أحياناً إلى السفه، حتى أن أحدهم قد يُنفِق في لحظات، ما يكفي مطالب أساسية لأسرة كاملة، ربما لشهر كامل.. وهذا قد يكون سبباً للتوتر.. والإحباط.. والغضب أيضاً.. ولكن لماذا التعصّب؟! لماذا؟! هناك بالطبع دول أكثر فقراً منا، ودول تبلغ فيها الفجوة الاجتماعية حدًّا مخيفاً، وتلك الدول فيها بالطبع توتر وعنف أيضاً.. ولكن ليس التعصّب.. فلماذا نحن؟! أحياناً أخرى أتصوّر أن الجواب هو الضغوط السياسية؛ حيث يشعر العديدون منا بغياب الديمقراطية، والقرارات السيادية غير العادلة، وقهر الكلمة والفكر والرأي.. وفي الدول التي تعاني من هذا، تظهر دوماً تيارات معارضة.. ومقاوِمة.. ورافضة.. وعنيفة.. وأحياناً عسكرية.. ولكن حتى تلك تضم -في كل الدول الأخرى- كافة المواطنين، من كافة الطوائف.. مقاومة الظلم والجبروت تضمهم.. وتلحم بعضهم ببعض.. وتوحّدهم.. ويختفي التعصّب.. فلماذا يبرز عندنا؟! لماذا؟! ما زال الجواب بعيداً ومحيّراً.. ولكن دعنا نفترض أن الجواب يكمن في الأمن، وتعنّته، وسيطرته، وسطوته، وعدم احترامه للحقوق الآدمية والإنسانية والقانونية، وما ينتج عن هذا من ضياع الثقة، بينه وبين المواطن، واعتباره عدداً، بدلاً من أن يكون سنداً وحماية.. والجواب هنا لم يقنعني تماماً.. هذا لأن تعنَّت الأمن لا يكون أبداً موجّها تجاه مواطنين دون آخرين، بل سيكون دوماً وحتماً موجّهاً للجميع.. وهذا موجود في دول ديكتاتورية وقمعية عديدة.. وتلك الدول فيها الغضب.. والكراهية.. والعدوانية تجاه الأمن.. ولكن ليس لديها التعصّب.. هناك حتماً إذن جواب آخر.. جواب يساعد لعبة البازل أن تكتمل.. ولتتفهّموا العبارة الأخيرة، دعوني أخبركم أن المعلومات أشبه بلعبة بازل كبيرة؛ حيث توجد أجزاء عديدة من القطع، تصنع في مجملها صورة واضحة، وعلى اللاعب أن يضع تلك الأجزاء في أماكنها الصحيحة، حتى تكتمل الصورة، ولو أنه فَقَدَ جزءاً منها، فالصورة لا تكتمل أبداً.. لذا، فأنا أطلق على كل جواب أبحث عنه، اسم "البازل".. وجواب سؤالنا هذا ليس من نوع البازل البسيط.. بل من نوع البازل الكبير.. والكبير جداً.. ولقد جمعنا العديد من أجزائه.. الاقتصاد.. والسياسة.. والأمن.. وعلى الرغم من كل هذا، ما زال في لعبتنا أو جوابنا جزء ناقص.. جزء بدونه يستحيل أن تكتمل الصورة على نحو صحيح.. ويستحيل أن نراها في وضوح.. فكل قِطَع البازل تشير إلى احتمال حدوث الغضب.. والنقمة.. والثورة.. والعنف.. وأمور سلبية عديدة، هي انعكاس طبيعي لحالة التوتر المستمر، مع فقدان الأمل في الخلاص منها.. ولكن مهلاً.. الخلاص.. لقد تحدّثنا عن الخلاص، الذي هو غاية كل دين، فالإنسان، أي إنسان، يتبع الدين، أي دين، لهدف أساسي في النهاية.. الخَلاص.. خلاص روحه بعد موته.. أو بمعنى أكثر وضوحاً، صعود روحه إلى الجنة، وليس إلى النار.. الخلاص إذن هو الغاية.. وهو سر التديّن.. والمفترض، لكي تخلص روحي إلى الجنة، ألا تعترض طريقها أرواح أخرى، آذتها أو عذّبتها أو ظلمتها في الدنيا.. والمُدهش أن معظم المتعصّبين، يُعذّبون الآخرين، ويؤذونهم، وأحياناً يظلمونهم؛ فقط لأنهم يختلفون معهم، وكأن الدين -أي دين- منذ بدء الخليقة، قد حثّ على ظلم وإيذاء وتعذيب الناس.. يبدو أننا قد خرجنا من البحث عن الجواب، إلى البحث عن التعريف.. تعريف التعصّب.. ويبدو، بل من المؤكَّد، أن تعريف التعصّب، هو أساس لعبة البازل هذه كلها.. فلو عرفنا ما هو التعصّب، نعرف ما الذي قادنا إليه.. ونعرف، وهو الأهم.. لماذا نتعصّب؟! فلنبدأ إذن بالتعريف.. ولنبدأ بالمعرفة.. فمن يدري؟! ربما،،،،