في البداية كانت الكلمة.. والكلمة مثل المادة.. لا تفنى ولا تُستحدث من عدم، ومهما تغيّرت الثقافات أو اللغات أو الزمن والتاريخ والمكان؛ فإن الكلمة ستبقى إلى الأبد صاحبة الأسبقية في تغيير التاريخ، ودفْع عجلة التقدم والحضارة؛ فالكلمة تصنع العلوم والأدب والحضارة؛ ولكن هل يمكن أن يندثر نوع معيّن من الأدب أو اللغة؟ كما يمكن أن يندثر نوع معيّن من العلوم أو الثقافة. يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل: "تكاد القصة اليوم تستأثر بالأدب المنثور كله، وهي ولا ريب تتقدم كل ما سواها من صور هذا الأدب؛ فالرسائل التي كانت ذات مكانة سامية في زمن من الأزمان قد اختفت أو كادت، والقطع الوصفية القائمة بذاتها، والمكاتبات الأدبية الطريفة الأسلوب، وما إلى ذلك من أنواع النثر، قد اندمج في القصة، وأصبح بعض ما تشتمله". فالذي يكتب أدب الرسائل هذه الأيام قلة من أدباء العالم الغربي، ولا يُهمهم هنا التوزيع أو إضافة شيء إلى نتاجهم الأدبي؛ بل على سبيل التنويع والترويج لمهاراتهم الأدبية.. أدب الرسائل لم يحظَ يوماً على مستوى الأدب العربي بأي مكانة؛ صحيح أنه راج لفترة في الأدب الغربي؛ ولكنه الآن شبه ميت، وقد لا تقوم له قائمة في المستقبل. نفس الحال بالنسبة للملحمة الشعرية الأسطورية، والتي كانت في فترة غابرة من التاريخ هي المسيطرة على عقول الشعراء والأدباء؛ وذلك في عصر "فرجيل" و"هوميروس" ومِن بعدهما "دانتي" وغيره.. هذا النوع من الأدب قد اندثر تماماً. نفس الحال بالنسبة لمؤلفات مثل "ألف ليلة وليلة" وحكايات الأدب الشعبي الخارقة المليئة بالعبر والمواعظ والرموز، لن تجد أدبياً رائق البال ليكتب هذا النوع من الأدب، وإن كتبه؛ فلن تجد سوى قلة قليلة من القرّاء هي من تتقبل هذا النوع وتقبل عليه! يقول الراحل نجيب محفوظ: "الرواية هي شعر العصر الحديث".. يبدو هذا صحيح مائة في المائة؛ ففي هذا العصر استأثرت الرواية والقصة بكل ما كان للشعر من هالة وفخامة، وتمّ تقسيم الأدباء أنفسهم بين شاعر، وأديب يكتب القصة والرواية؛ فالشعر كان بالنسبة للعرب كالماء الذي يشربونه، ثم جاءت له فترة من الانحدار والموات، قبل أن ينهض من سُباته مرة أخرى على يد محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والمازني.
والآن هو في حالة أخرى من حالات الموات؛ فلكل شاعر مجموعة من محبّيه ومريديه، دون أن يحظى بجمهور عام كما كان في السابق، ولن تجد بين الشعراء ذات التنافس بل والحرب الضروس التي كانت تشعل نار الأدب والتجلّي لدى الشعراء؛ فالشعر طِبقاً لرأي "طه حسين" نفسه توقّف عند مرحلة ماضية؛ ولكن فنون النثر في تطور مستمر؛ بل إن الشعر نفسه تحوّر وتفرّع إلى أنواع كثيرة وغريبة؛ فبعد أن فَقَد الشكل العمودي وزنه وقافيته، حتى صدر نوع يسمى "الشعر النثري"، وهو أبعد ما يكون عن الشعر الذي تعوّدنا عليه. حتى في مجالات أخرى مثل المسرحية، والتي فقدت رونقها وعبيرها، وصارت على حافة الموت والانهيار، والذي يسبق في المعتاد حالة الاندثار الكامل؛ فلم يعد هناك من كبار المؤلفين من يهتم بالمسرحية الأدبية.. من يهتم الآن بمسرحيات توفيق الحكيم؟ بل من يقرأ الآن مسرحيات شكسبير؟ نفس الحال بالنسبة لآداب المذهب الاشتراكي والآداب الاقتصادية، والتي طغت على العالم الأدبي في فترات سابقة، وأنا أتكلم هنا عن جمهور القراء وليس النقاد أو متخصصي دراسة الأدب. بل إن الأمر يتعدى في بعض الأحيان إلى اندثار اللغة نفسها؛ فقد بدأت المعاجم الأوروبية إدخال المصطلحات الجديدة إليها؛ فكلمات مثل "سبورت" و"جنتلمان" دخلت إلى المعاجم الفرنسية، وهذا يعني اندثار المصطلحات الأخرى التي كانت تحلّ محلّ هذه الكلمات، وفي المعجم العربي دخلت كلمات أخرى، كما أن عبارات أدبية مثل "أسلم ساقيه للرياح" أو "يطوي الطريق طياً" أو"كجلمود صخر حطّه السيل من علِ"، باتت مكررة؛ حتى أن الأدباء يستعففون عن استخدامها، وهذا يعني أنها في طريقها إلى الاندثار وظهور مصطلحات جديدة تناسب العصر. ويمكن حلّ اللغز في عبارة قاسم أمين: "كلما أراد الإنسان أن يعبّر عن إحساس حقيقي، رأى بعد طول الجهد وكثرة الكلام أنه قال شيئاً عادياً، أقل مما كان ينتظر، ووجد أن أحسن ما في نفسه بقي فيها مختفياً، ولتصوير إحساس كامل وتمثيل أثره في صورة مطابقة للواقع، يلزم استعمال ألفاظ غير المتداولة، ألفاظ غير العتيقة البالية، يلزم اختراع ألفاظ جديدة". فالأديب مثل الثائر تماماً، يبحث عن أرض خصبة لثورته؛ فهو يترك القديم وراءه والذي لم يعد يقدّم له ما يبغيه من أراضٍ خصبة للثورة وللأدب وللخيال، وما دام قد وجدها في أرض الراوية الطويلة، فهو يترك وراءه أي شيء آخر، وبهذا تبور أراضٍ كانت خصبة منذ فجر التاريخ؛ مثل الشعر والمسرحية، بل تبور أراضٍ من اللغة لتنتج لغة جديدة تعبّر عما لديه من واقع آخر أو مستقبل مجهول، وربما في المستقبل يهجر أرض الرواية إلى نوع آخر من الأدب لم يُوجد بعدُ. ويبقى السؤال الأخير.. هل يمكن أن يندثر الشعر والمسرحية كما اندثر أدب الرسائل أمام الرواية والقصة، أم ستقوم لهما قائمة مرة أخرى؟