ران صمت مهيب على حجرة مدير المخابرات العامة المصرية، وهو يتطلع -مع عدد من كبار معاونيه- إلى شاشة كبيرة، تنقل إليه ما التقطته كاميرات المراقبة الثابتة، في صالة الوصول بمطار (القاهرة)، ثم لم يلبث أحد معاونيه أن أشار إلى رجل غربي الملامح، وهو يقول: - (إيتان كرينهال)... أسترالي، ويعمل سراً لحساب المخابرات المركزية الأمريكية، وصل على متن الطائرة، القادمة من (بلغاريا)، حاملاً جواز سفره الأسترالي، وفحص حقائبه يؤكد أنه لا يحمل أية أسلحة. ثم أشار إلى آخر، مكملاً: - (ريكاردو لوبيز)... برازيلي، قاتل محترف لحساب قسم التصفيات، بالمخابرات الإسرائيلية، وصل على متن الطائرة القادمة من (النرويج)... قال مدير المخابرات، في تفكير عميق: - هذا يجعلهم خمسة أفراد. أومأ معاون آخر برأسه، قائلاً: - بالضبط، وملفاتهم كلهم تشير إلى أنهم يعملون من خلف الستار؛ إما لحساب المخابرات الأمريكية، أو الإسرائيلية، وكلهم لم يحملوا أية أسلحة. أشار مدير المخابرات بيده، قائلاً: - الأسلحة ليست مشكلة؛ فكل سفارة تقريباً تنقل إليها بعض الأسلحة للحماية، عبر الحقائب الديبلوماسية، التي لا يجوز تفتيشها... حتى نحن نفعل هذا، ورجالنا في عملياتهم الخارجية، يحصلون على أسلحتهم، عبر هذا السبيل. قال معاون ثالث في اهتمام: - وصولهم على هذا النسق المتزامن، يؤكد أنهم هنا لأمر ما. وافقه مدير المخابرات بإيماءة من رأسه، وقال: - ووصولهم في هذا التوقيت بالتحديد، يجعلنا نتوقع هذا الأمر. سأله المعاون الأول: - ولكن ماذا يستطيعون فعله، في أمر نحيطه بكل هذه السرية، وبكل وسائل الأمن والتأمين الممكنة. صمت مدير المخابرات بضع لحظات، قبل أن يقول في حزم: - هم سيحملون الجواب إلينا. ثم اعتدل في مقعده، واستطرد بلهجة قائد حاسم: - سنضع خمستهم تحت رقابة دائمة، وسنتبعهم كظلهم... أريد تسجيل كل محادثاتهم، وحواراتهم، وحتى همسات نومهم... والأهم ألا ينتبه أحدهم لحظة واحدة، إلى أننا نفعل هذا. وعاد يتراجع في مقعده، ويحك ذقنه بأصابعه، مكملاً، وكأنه يحادث نفسه: - لابد وأن نعلم لماذا أتوا، ولأي شيء يخططون.. لابد. ولم ينطق أحد معاونيه بحرف واحد... على الإطلاق... ساعة كاملة، قضاها (جو) و(تروتسكي)، يفحصان نتائج تلك الفحوص المدهشة... ساعة كاملة، راجعا فيها كل ما درساه في حياتهما... وكل ما عرفاه منذ مولدهما... راجعا الدراسات التشريحية... والبيولوجية... وعلوم الإنسان... وعلم الخلايا... والجينات... وحتى أمراض الدم... وطوال تلك الساعة، لم يتفوه رجل الأمن بحرف واحد... لقد لاذ بصمت عجيب... صمت كامل تام، لم ينبس خلاله ببنت شفة... ولكن عيناه تابعتهما، بمنتهى الدقة... وأذناه أنصتتا لكل حرف نطقاه... ولم يحاول مقاطعتهما قط... ولا حتى بحرف واحد... وفي النهاية، أطلق (تروتسكي) زفرة طويلة، وهو يقول: - إنه بشري بالفعل. وهنا فقط، حلّ رجل الأمن عقدة ساعديه، وهو يسأل متوتراً: - حقاً؟!... أشار (جو) بسبابته، قائلاً: - مع فارق جوهري. نهض رجل الأمن، يسأله في صرامة: - أي فارق؟!.. أجابه الروسي في اندفاع: - إنه لا يتفق مع بشر هذا الزمان. انعقد حاجبا رجل الأمن في شدة، وهو ينقل بصره بينهما في عصبية، قبل أن يقول في حدة: - ما الذي يعنيه هذا؟!...
إنه بشري بالفعل أجابه الروسي في حماس: - حتى الجينات الوراثية تتطور مع الزمن؛ فهناك صفات تكتسب، وتنتقل إلى الأجيال التالية، بحكم سلسلة التطور الطبيعية، وجينات هذا الكائن بشرية بالفعل؛ ولكنها تبدو أشبه بجينات الإنسان الأول، من حيث سماتها الوراثية. سأله رجل الأمن، في توتر ملحوظ: - من أي جانب؟! تبادلا نظرة صامتة، ثم أجاب (جو) في خفوت: - نفضّل أن نضع هذا في تقرير رسمي؛ لأنه ليس أمراً سهل الاستيعاب. بدا الغضب على وجه رجل الأمن، وهو ينقل بصره بينهما مرة أخرى، قبل أن يقول في صرامة، لم تنجح في إخفاء غضبه: - لن تقولا إنه جاء عبر الزمن، أليس كذلك؟! تبادل (جو) و(تروتسكي) نظرة أخرى، قبل أن يقول الأخير: - إنه احتمال ليس مستبعداً، نظراً للتشابه الوراثي، والتشابه الشكلي أيضاً. همّ رجل الأمن بقول شيء ما، ولكن (جو) اندفع يضيف: - ولكنه ليس ما نعتقده. سأله رجل الأمن في عصبية: - وما الذي تعتقدونه؟! قال (جو) في حزم: - الأمر لا يتوقف على ما نعتقده؛ وإنما على ما نريده. سأله في عصبية أكثر: - وماذا تريدان؟!.. أجابه (تروتسكي) هذه المرة في حزم: - خريطة فلكية. ابتسم (جو) ابتسامة شاحبة؛ في حين احتقن وجه رجل الأمن، بمزيج من الدهشة والغضب والاستنكار، وقال في حدة: - هل سنعود إلى هذا الحديث؟! أجابه (جو) في تحد: - إننا لم نتجاوزه أبداً. شعر الروسي أن الأمور ستتوتر؛ فضغط على يد (جو)، محاولاً تهدئته، وقال لرجل الأمن: - مهما كانت تصوراتكم؛ فذلك الكائن، أياً كانت ماهيته، لن يحتاج إلى الخريطة لتحديد موقعنا، ببساطة لأنه هنا بالفعل، وكان يمكنه إرسال إشارة تحديد موقع، عبر زيه شديد التطور، والذي يحوي كل ما أشرت إليه. بدت علامات التفكير على وجه رجل الأمن؛ في حين أضاف (جو) ولهجته مازالت تحمل تلك الرنة العصبية: - إنه يحتاج إليها حتماً، ليرشدنا إلى المكان الذي جاء منه. عاد حاجبا رجل الأمن ينعقدان، في تفكير عميق، و(تروتسكي) يقول: - وهذا حتماً سيصنع فارقاً كبيراً. نقل رجل الأمن بصره بينهما، في شك حذر، ثم قال في بطء: - الأمر يحتاج إلى قرار، من جهة أكبر: سأله (جو): - هل ستعود إلى رؤسائك؟! أجابه في سرعة: - بالتأكيد. قال (جو) في بطء: - عظيم... لديّ في هذه الحالة رسالة، أريدك أن تبلغهم إياها. سأله رجل الأمن في اهتمام: - وما هي؟! مال (جو) نحوه، وقال في حدة: - أخبرهم أن أفضل وسيلة، لضمان فشل أية دراسة علمية، هي أن تضعها في يد الأمن. احتقن وجه رجل الأمن، وهو يتراجع بحركة حادة كالمصعوق، وتابع (جو)، وحدّته تتصاعد: - وأن الولاياتالمتحدة نفسها، كادت تفقد تفوّقها النووي، عندما وضعت أحد جنرالاتها على رأس المشروع* ازداد احتقان وجه رجل الأمن، وكاد يهمّ بالهجوم على (جو)، لولا ما حدث ... لقد ألصق (موجال) وجهه بالزجاج، وقال شيئاً ما، وهو ينقل بصره بين ثلاثتهم... ونقلت الأجهزة المتطورة ما قاله إلى الشاشات... واتسعت عينا (جو) في ذهول، وهو يقرأ ما تعنيه الكلمات... والواقع أن الأمر كان يستحق منه هذا الذهول... بكل معنى الكلمة. يتبع * حقيقة لقراءة الأعداد السابقة من "أكشن" إضغط على لينك أكشن الموجود بجوار اسم د. نبيل فاروق