كتاب "كليلة ودمنة" من الكتب الشهيرة التي يعرفها الكثير -إن لم يكن الجميع- وهو عبارة عن قصص سياسية حكيمة على ألسنة الطيور والحيوانات, كتاب يحوي من الإرهاصات السياسية ما يلوح في أفق كل عصر؛ حتى أن من يتابع حكاياته يرى الواقع يتكرر في كل زمن مع اختلاف الأشكال. من أبرع الجُمل التي جذبتني فيه حول تشبيه الدنيا وما قارنْتُه بواقعنا المرير -للأسف- أن: "الدنيا كالعظم يصيبه الكلب يجد منه رائحة اللحم فيطلبها، فتُدمي فاه، فلا يزداد لها طلبًا إلا ازداد لفيه إدماءً". والمعنى العام لتلك العبارة أن الحياة أشبه بعظمة لها رائحة اللحم التي تجذب الكلب فيلهث خلفها ويسيل لعابه مغمضاً عينيه ليأكل ما ظنه لحماً وبكل قوة, ما إن يقضمها حتى يدرك أنها مجرد عظمة، وقد أعمته رائحتها عن إدراك هويتها الحقيقية, يعضّ فيها وكلما عضّ على العظمة أكثر زادت جروح فمه، وسال الدم أكثر وأكثر. خرجت علينا في الآونة الأخيرة عدد من عناوين الصحف التي نستطيع أن نطلق عليها وبكل بساطة: "شر البلية ما يضحك".. قد يغضب البعض بسبب الضحك من شر البلية؛ لكن الكثير سيعلم أن هذا الضحك سببه مرارة الأحداث التي تتحدث عنها العناوين الصحفية كي لا تُفقع مرارة القارئ, على غرار البثور التي تخرج على الجلد حاملة السموم من داخل الجسم.. دعونا ننتقل للأهم. في صباح يوم الأربعاء الموافق السابع من شهر إبريل، حملت الصحف عناوين كلها تتعلق بمهاجمة شباب 6 إبريل، وفاجأتنا الصحف والقنوات التليفزيونية بصور السحل والضرب للرجال والنساء على السواء؛ حتى وصل الأمر إلى كسر ذراع فتاة وإدماء لآخرين. وفي برنامج الحقيقة كانت الفتاة الشابة التي كُسر ذراعها "جانيت عبد العليم"، وأمامها كان اللواء العتيد "نبيل لوقا بباوي" وكيل لجنة الإعلام والثقافة بمجلس الشورى. استمعت للحوار الذي أدهشني، وكاد أن يقتلني ضحكاً حينما صاح اللواء بعلو صوته "اديني عقلك.. لما الأمن والظباط ينضربوا وبهم إصابات"، وأخذ يلوّح بورقة في يده قال إنها شهادات صحية تحوي تفصيلاً لإصابات الضباط. هل نسي سيادة اللواء أي دروع كان يحتمي بها رجال الأمن المركزي؟ وأي عصي كانوا يحملونها؟ لا يهمّ؛ فاللواء قد اعتاد هذا الأمر من محاولات التضليل؛ فتزداد جروحه في وسائل الإعلام إدماء, وتذكروا نوال علي وعبير العسكري منذ عدة سنوات كانتا مكان جانيت أمام سيادة اللواء في ذات البرنامج مع الأستاذ وائل الإبراشي؛ فالأولى ماتت مقهورة، والثانية هاجرت خارج البلاد. إذن فسيادة اللواء له باع طويل في مثل تلك الأمور. وعنوان آخر نفتتحه بتساؤل مهم، وإجابته إجبارية عليك أيها القارئ العزيز: مَن منا لم يسمع تصريحات العضو النزيه!! "القصاص"، وأخيه أبو عقرب، وثالثهما حميدة عضو حزب الغد؟! عنوان الصحف: "نائب الوطني يلوم الداخلية على "الحنّية" مع متظاهري 6 إبريل"! أية "حنّية" يقصد؟! لا أعرف، ثم تطور الأمر إلى ما هو أكثر قسوة في القول الصريح تحت قبة البرلمان "ضرب المتظاهرين بالنار". بعد أن أُطلقت تلك التصريحات من نائبنا العزيز رداً على نائب الإخوان حمدي حسن الذي واجههم بأدلة؛ كقميص ممزق لأحد المتظاهرين الذين تعرضوا للضرب يوم 6 إبريل الماضي، عاد "القصاص" وقال يوم الثلاثاء 20 إبريل في جلسة المجلس: إنه لم يقصد إطلاق النار على أبناء الشعب؛ وإنما أراد أن ينوّه على أن القانون يعطي الشرطة حق تفريق المظاهرات بالقوة إذا ما مثّلت خطراً على البلاد. يا سلاااام؟! بينما دعا أخوه بحزب الفكر الجديد ودعوة "من أجلك أنت"، السيد "أبو عقرب" قائلاً: "لا بد من ضربهم بيد من حديد". أعادت كل التصريحات والتُرّهات الماضية إلى مخيّلتي تلك المشاهد التي كنت أتابعها دوماً على شاشة التلفاز كلما شاهدت فيلماً أو مسلسلاً تلفزيونياً, وقصة هذا أو ذاك تدور في فلك المقاومة الشعبية ضد المحتل الأجنبي أيام سعد باشا زغلول وثورة 19 وما تلاها. كان المصريون الشرفاء يصنعون بأجسادهم دروعاً للذود عن أغلى وأثمن قطعة قماش.. لا.. لم تكن من الذهب أو الياقوت بل كانت تمثل أعظم رمز لأرض الوطن.. كانوا يحمونها وحناجرهم مدوية فوق صوت رصاص المحتل الذي يريد تفريق ذاك السيل الشعبي العرمرم؛ ولكن صيحتهم الخالدة كانت تهز أرجاء المعمورة، مزلزلة كيان أعتى المحتلين، منادية "تحيا مصر". ولأن المحتل كان في مصر يسعى وراء الدنيا فقط؛ استطاع المصريون أن يجرحوه في كل لحظة كأحدّ سكين حتى أعلن جلاءه ململماً جراحه. هذا ما نادى به نوابنا "العظام!!!" عودة سياسة الاحتلال وتصويب البنادق إلى صدور أبنائنا.. لِمَ لا وقد اقترب ميعاد الانتخابات الجديدة؟ وكلٌّ يريد أن يدلي بدلوه كي ينال نصيب الأسد من الرضا حتى يبقى في مكانه الذي أبقاه دافئاً بجلوسه عليه طوال سنين عديدة, حتى الدمى المعارضة لم تترك دلوها خارجاً؛ بل غاص دلوها وبقوة في بئر الرضا. هذا ما أراه من وجهة نظري المتواضعة.. أخشى أن يعود الاحتلال ممثلاً في دعوات نوابنا "الشرفاء"!!! لقتل أبناء بلدنا الطاهرة، لمجرد عظْمة لا تفعل شيئاً لسيادة النائب؛ إلا أن تدميه كلما ازداد فكّاه عليها انقباضاً. بالفعل إنها الدنيا في أروع قسوتها، واقرأ قول الشاعر: إذا النابحُ العاوي أصاب معرَّقاً ... من اللحم أنحى يطلُبُ اللَّحمَ بالجدِّ فَيُدمي به فاه وَيَطْلُبُ جاهداً ... فيزدادُ إدماءً لفيه ولا يُجدي فلا تُجهِدنَّ النفْسَ في ما زواله ... وشيكٌ على قُربٍ من الدَّار أو بُعدِ والله الموفق.