لم يكن يوماً عادياً من بدايته، فيبدو أن الشمس قد غلبها الحنين إلينا فاقتربت منا أكثر، أو أن نسمات الهواء الرقيقة قد اكتشفت فجأة أنها في مصر فقررت الهجرة في مركب إلى إيطاليا.. المترو في هذا الوقت من اليوم -وقت الظهيرة- كان كعلبة التونة محكمة الإغلاق، والتي لا بد أن يتأكد صانعها -سائق المترو كل محطة- أن التونة مهروسة كويس! بمجرد أن خرجت من عربة المترو مقذوفاً كطلقة مدفع يمّمت وجهي شطر السماء شاكراً الله على نعمة الحياة مجدداً، وبدأت السير في منتصف الظهيرة حتى أصل إلى موقف الميكروباص في حلمية الزيتون، الذي سيوصلني إلى وجهتي التي لم أذهب إليها من قبل.. السبع عمارات! وجدت في الموقف أكثر من ميكروباص توجهت إلى أحدهم لأسأل أحد الركاب كبار السن: - لو سمحت.. هو ده رايح السبع عمارات؟ فأجابني متسائلا: السبع عمارات ولاّ السبع عماير؟ تعجبني دقة الشعب المصري، ولذا أجبته مبتسماً: حضرتك كلها مباني فيها أسانسيرات يعني.. المهم إنهم سبعة.. هاهاهاها. جلست في الكرسي الأمامي بجوار هذا الرجل الذي ارتسمت على وجهه الصرامة فجأة، وكأنه يقول: إنت هتهزر معايا ولاّ إيه؟! وبجوار السائق الذي رأيت في وجهه كل المواصفات التي تصلح لأحسن مسجل خطر فيك يا وزارة الداخلية، أعتقد أن هذا السائق قد نسي مناسبة كل علامة في وجهه، وهل هي من آثار معركة الشرابية أم موقعة العمرانية أم ملحمة الحرافيش! وبينما يتوافد الركاب على الميكروباص سألني أحد المواطنين التائهين مثلي: - حضرتك هو ده رايح "أربعة ونص"؟ وبما أنني مشهود لي بالذكاء الباهر أعملت عقلي في الأمر.. بما أننا سنذهب إلى "السبع" عمارات.. فأكيد سوف يمر الميكروباص على "أربعة ونص".. وبالطبع هذا الزبون سينزل قبل محطتي بحوالي "اتنين ونص" كده! علّمونا كده في أولى ابتدائي! ولكن للأسف صرخ أحد الركاب في الزبون أن "أربعة ونص" ليست وجهتنا.. فدعوت على الحكومة التي بعثرت أرقامنا في كل مكان!
انطلق الميكروباص الصغير متوجهاً إلى وجهته التي لا أعلم نهايتها، المهم أنه سوف يمر على السبع عمارات طيَّب الله ثراها.. مِلْت على السائق وبأقصى ما استطعت من أدب وهدوء رجوته أن يقف في محطة السبع عمارات لأنزل؛ لأنني لا أعرف الطريق.. نظر لي بطرف عينه فقط في كبرياء وهو يقول "طيّب"!
مرت عشر دقائق ولم يتوقف السائق.. فمِلْت عليه مرة أخرى، وذكّرته بالأمر، فزمجر قليلاً، وتحركت يده إلى جيبه الذي لن يقل ما فيه عن (آر بي جي) وقال في عصبية: - خلاص يا أستاذ حاضر هانزّلك في السبع عمارات.. انتهينا.. ماحدش طايق نفسه دلوقتي!
قبعت في مقعدي ساكناً، وخصوصاً بعد أن تعالى صوت الكاسيت بأغنية "جنات" وهي تندب حظها بأن "فيه خيط ضعيف رابط ما بيننا وده النصيب"، مع نظرات السائق التي تحذرني "هتخاف عليه هاخاف عليه.. هتسيب هاسيب"، فكدت أن أقبِّل يد السائق: إلهي ربنا يسعدك لا تسيبه ولا تقطعه! مرت نصف ساعة كاملة وأنا لا أجرؤ على المطالبة بحقي في النزول.. والميكروباص ينزل منه ركاب ويصعد ركاب آخرون حتى ظننت أنه بعد دقائق ستقابلني لافتة "مرحبا بكم في شرم الشيخ"! استجمعت شجاعتي وهمست للسائق بخجل: هيّ السبع عمارات لسه ماجتش؟ نظر لي شزراً، وقال بهدوء: - دي فاتت من ربع ساعة! - بس أنا قلت لك أكتر من مرة عشان أنا مش عارف الطريق. - خلاص اصبر.. قلنا خلاص اصبر.. اصبر بقى. وصلنا إلى آخر خط الميكروباص، نزل السائق ونادى على زميله السائق الذي سيعود على نفس الخط إلى نقطة البداية.. عشان خاطري، خد الجدع ده معاك للسبع عمارات.. ما تنساش السبع عمارات.. صرخ فيه صاحبه: خلاص يا عم السبع عمارات.. فهمنا.. غور بقى! كان مقعدي في ذلك الميكروباص الجديد عبارة عن كتف رجل، ويد سيدة، ورأس طفل صغير؛ وذلك لأنني جئت بعد حمولة الميكروباص.. وبدأت رحلة العودة.. فكّرت أن أداعب السائق بقولي إنه من الممكن أن يقف بي عند "خمس عمارات" وأكمل أنا العمارتين الباقيتين ولكن نظرة إلى تلك المطواة "قرن الغزال" التي تستقر في جيبه العلوي بديلاً عن السواك، وذلك العرق الذي أغرق نصف الميكروباص جعلتني أخرسَ! ظل السائق ينهب الطريق نهباً، فتذكرت ما حدث لي منذ دقائق فرفعت صوتي: ما تنساش تنزلني عند السبع عمارات لو سمحت.. غمغم السائق وكأنه يقول: اللهم طولك يا روح.. حاضر يا أستاذ حاضر! بعد ربع ساعة بدأ الشك يداعب عقلي فصرخت خائفاً: يا باشا.. هي السبع عمارات قدامها كتير؟ فصرخ: يا أستاذ دي فاتت من خمس دقايق.. ما إحنا كنا واقفين فيها.. مش تقول طيب إنك نازل السبع عمارات!! وما كان مني إلا أن صرخت: طب نزّلني.. نزّلوني أبوس إيديكم.. أنا بقالي ساعتين زبون في الميكروباصات.. أنا عايز أتجاوز المرحلة دي بقى.. أنا هاخدها مشْي.. أنا هاروح ماشي يا جدعان! نزلت من الميكروباص وانطلق السائق، حاولت أن أشير لأي تاكسي بلا جدوى.. الشمس تنتقم من ذلك الكائن الوحيد في تلك المنطقة النائية الذي تحداها ومشي في الشارع.. ولا تعلم المسكينة أن كل ذنب هذا الكائن أنه اعتمد على جدعنة وتعاون أهل بلده، وأنه أراد الذهاب إلى "السبع عمارات"!