مجلس جامعة بنها الأهلية يشكر الرئيس على المبادرات التي تستهدف بناء الإنسان    وزيرة التخطيط تلتقي ممثلي منتدى شباب العالم المصري بنيويورك    أبرز7 تصريحات لوزير المالية في لقائه وزير الاستثمار الأوزبكي    ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي لأعلى مستوى في 12 أسبوعاً    إصابة فلسطيني بالرصاص الحي واعتقال سيدة خلال اقتحام الاحتلال لبلدة بشرق قلقيلية    بايدن يقف للمرة الأخيرة كرئيس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة    وزير العمل: مصر تدعم كل عمل عربي مشترك يؤدي إلى التنمية وتوفير فرص العمل للشباب    عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي    صور| بعثة الزمالك تطير إلى السعودية استعدادًا لخوض السوبر الأفريقي    اتحاد الكرة يعلن عن تشكيل الجهاز الفني لمنتخب الشباب بقيادة روجيرو ميكالي    تحويلات مرورية تزامناً مع تنفيذ أعمال كوبرى سيارات بمحور تحيا مصر    أمسية ثقافية فنية وحفلا موسيقيا بالمتحف القومي للحضارة    لحياة أكثر صحة.. 5 نصائح فعالة لتحدي الشيخوخة    جامعة بنها تنظم قوافل طبية وبيطرية بقريتي مرصفا والحصة    وزير الخارجية: قضية المياه وجودية لمصر ولن نسمح لأي دولة بالتصرف وفق أهوائها    لهذا السبب.. قرار عاجل من كاف بتأجيل مجموعات دوري الأبطال والكونفدرالية    وزير الرياضة يستقبل السفير الإيطالي لهذا السبب    رابط إعلان نتيحة تقليل الاغتراب والتحويلات لطلاب الشهادات الفنية 3 و5 سنوات    «هل حدث تسريب من مصنع «كيما» في مياه النيل؟».. محافظ أسوان يكشف الحقيقة    بالأسماء.. 11 مصابًا في تصادم ميكروباصين ونصف نقل على زراعي البحيرة    البنك الأهلي المتحد مصر يوقع اتفاقية تعاون لتقديم خدمات التأمين البنكي    "بردا وسلاما على لبنان".. درة تدعم الشعب اللبناني    إحالة دعوى مرتضى منصور بوقف وسحب ترخيص فيلم الملحد للمفوضين    هيكل.. الجورنالجي الذي لم يتكرر!    روسيا تعرب عن قلقها إزاء التصعيد العسكري على لبنان    وزارة الأوقاف:افتتاح 14 مسجدًا الجمعة المقبلة    عوض تاج الدين: الرئيس السيسي يتابع لحظة بلحظة تقارير الحالات في أسوان    المواطنة والهوية الوطنية.. كيف تؤثر القيم الإنسانية في مواجهة الفكر المتطرف؟    الجيزة تزيل 13 كشك و"فاترينة" مقامة بالمخالفة بالطريق العام في المنيب    الشلماني يثير حفيظة القطبين قبل موقعة السوبر    الصحة: خطط عمل مستدامة للحفاظ على مكتسبات الدولة المصرية في القضاء على فيروس سي    عاجل| السيسي يصدر توجيها جديدا بشأن تنمية جنوب سيناء    طقس الفيوم.. انخفاض درجة الحرارة والعظمى تسجل 33°    صوت الإشارة.. قصة ملهمة وبطل حقيقي |فيديو    حبس عاطل ضبط وبحوزتi مواد مخدرة قبل ترويجهم على المتعاطين بالمنوفية    وزيرة البيئة تتوجه إلى نيويورك للمشاركة في أسبوع المناخ    ميرنا وليد وبناتها يخطفن الأنظار في حفل ختام مهرجان الغردقة (صور)    انتخابات أمريكا 2024.. هاريس تخطط لزيارة حدود أريزونا لمعالجة مشكلة الهجرة    خطوات إجراءات التعاقد على وحدة سكنية من «التنمية الحضرية» (مستند)    شوبير يعلق على قائمة الأهلي للسوبر الأفريقي: لا صحة لوجود حارسين فقط    ضغوطات وتحديات في العمل.. توقعات برج الحمل في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر 2024    بحث علمي وتعليم وتبادل طلابي.. تفاصيل لقاء رئيس جامعة القاهرة وفدَ جامعة جوان دونج الصينية    الإسماعيلي ينتظر رد «فيفا» اليوم لحسم ملف خليفة إيهاب جلال (خاص)    باستخدام كبرى العلامات التجارية.. التحقيق في واقعة ضبط مصنع أسمدة منتهية الصلاحية بالغربية    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية لمشروع مراكز القيادة الاستراتيجي التعبوي التخصصي    وزير الخارجية: لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية دون أمن واستقرار    رئيس شركة المياه بالإسكندرية يتفقد يتابع أعمال الإحلال والتجديد استعدادا لموسم الشتاء    الصحة تعلن حصول 3 مستشفيات على شهادة اعتماد الجودة من GAHAR    ما حكم الخطأ في قراءة القرآن أثناء الصلاة؟.. «اعرف الرأي الشرعي»    بالصور.. حريق هائل يلتهم ديكور فيلم إلهام شاهين بمدينة الإنتاج الإعلامي    بالفيديو.. أسامة قابيل للطلاب: العلم عبادة فاخلصوا النية فيه    الإفتاء: الإسلام حرم نشر الشائعات وترويجها وتوعد فاعل ذلك بالعقاب الأليم    أبو الغيط يوقع مذكرة تفاهم الجامعة العربية ومنظمة التعاون الرقمى بنيويورك    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 24-9-2024 في محافظة قنا    مريم الجندي: «كنت عايزة أثبت نفسي بعيدًا عن شقيقي واشتغل معاه لما تيجي فرصة»    أضف إلى معلوماتك الدينية| دار الإفتاء توضح كيفية إحسان الصلاة على النبي    جيش الاحتلال الإسرائيلي: صفارات الإنذار تدوى جنوب وشرق حيفا    نادر السيد: النسب متساوية بين الأهلي والزمالك في السوبر الإفريقي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التمرد والدعوة إلى التغيير في قصص يوسف الشاروني
نشر في صوت البلد يوم 26 - 01 - 2017

منذ خمسة عشر عامًا، عندما كنا نحتفل ببلوغ أخي الأكبر يوسف الشاروني الخامسة والسبعين، قلت كلمة بعنوان "يوسف الشاروني بين التناغم والتمرد"، ذكرت فيها أن "اللافت للنظر أنه، مع هذا التناغم الذى يقوم عليه عدد كبير من قصص يوسف الشاروني، فإن هذا هو الشكل الذي اختاره ليعبر من خلاله في معظم قصصه عن التمرد".
وذكرت أن "روح التمرد هذه تسفر عن نفسها بوضوح في شخصيات وموضوعات قصصه ... التمرد كنوع من الاحتجاج على ما يحيط الإنسان من ضغوط وأوضاع وتحديات ... إن معظم شخصيات يوسف الشاروني .. تتمرد على الواقع الذي تعيشه، وتسعى إلى تغييره".
كما أكدتُ على أننا: "نجد أنفسنا أمام أعمال فنية توحي بجوانب إيجابية، تعطي الأمل في التغيير وتحث عليه .. إنها احتجاج على الواقع، قد يفقد فيه البطل الحب أو الحياة أو العقل، لكن قصص يوسف الشاروني، من خلال ذلك كله، وبما يختار الكاتب من ألفاظ وعبارات وصياغة، تؤكد دائمًا، من خلال الفن، أنه في قدرة الإنسان أن يغير دائمًا هذا الواقع إلى الأفضل".
وأضفت: "لقد وجدتُ دائمًا أنه، مع البناء الفني المحكم لمعظم قصص يوسف الشاروني، فإنه يوجد خلف كل قصة شيء يريد أن يقوله، وأوضح هذه الأشياء أنه في قدرة الإنسان أن يغير الأوضاع التي تقيده وتكبله والتي لا يرضى عنها".
وأوردت، دليلاً على ما أقول، أمثلة واضحة من قصة "مصرع عباس الحلو" وقصة "رسالة إلى امرأة" - وأضيف هنا قصة "الحذاء" أيضًا .
***
لكنني لاحظت أن عددًا من النقاد، أو من تناولوا قصص الشاروني بالتعليق، قد ركزوا معظم ملاحظاتهم على أن "الشاروني قاد وأثرى الجانب التعبيري في القصة "(اقرأ شعبان يوسف - كتاب رسالة إلى امرأة - ص 172 .(
وأفاضوا في الحديث عن الابتكار في المعالجة، وقوة التأمل، وسرد المشاعر والأحاسيس التي تدور في نفس الإنسان (د . ريمون فرنسيس)
بل يقول شعبان يوسف: إن معظم قصص الشاروني تدور في أُطر أسرية حميمة، ولا ترفع شعارات الظلم والعدالة الاجتماعية .. ، ثم يؤكد أن "القصة عند يوسف الشاروني ليست منطوية على هدف معين سياسيًّا أو إصلاحيًّا " .
لهذا إذا كنت تحدثت، منذ خمسة عشر عامًا عن "التناغم" في قصص يوسف الشاروني، فحديثي اليوم لن يكون إلا عن "التمرد" في حياته وقصصه. ولن يكون إلا عما يوجد خلف كل قصة من شيء يريد أن يقوله، وعلى وجه خاص قدرة الإنسان على أن يغير الأوضاع التي لا يرضى عنها.
***
في عام 1942، عندما كنت في العاشرة من عمري، في السنة الرابعة الابتدائية، كان أخي يوسف قد أتم السنة الأولى من دراسته بقسم الفلسفة وعلم النفس بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وعند بداية العطلة الصيفية، اتفق مع عدد من زملائه أن يذهبوا إلى مدينة التل الكبير، لتجربة العمل في المتاجر التي كانت تبيع كل شيء للجنود الإنجليز الذين كانوا يتمركزون في المدن الممتدة على طول قناة السويس والقريبة منها .
سافر في الصباح .. وعند منتصف الليل، فوجئنا، في بيتنا، بطرقات عنيفة على باب البيت .. فزعنا من نومنا منزعجين، وما إن فتحنا الباب ، حتى اندفع إلى الداخل مجموعة من الرجال، بعضهم يرتدى البدلة وبعضهم الملابس البلدية، ومعهم عدد من جنود الشرطة .. وانتشروا، بغير استئذان، في كل أنحاء البيت .. وفجأة سأل أحدهم - اتضح فيما بعد أنه من ضباط القسم السياسي - أين المدعو يوسف اسحق؟
وهكذا اكتشفنا، والدي ووالدتي ونحن أخوته وأخواته الصغار، أن كل هذا العدد الذي اقتحم بيتنا، إنما يبحثون عن أخي الذي لم يكن قد بلغ بعد السابعة عشرة من عمره، والذي ذهب وحده في أول مغامرة له ليجرب عالم العمل أو الوظيفة .
لكن .. لماذا؟
لم يحاول أحد أن يجيب عن تساؤلاتنا .
أخبره والدي أن يوسف سافر في الصباح إلى التل الكبير ليشتغل. طلبوا عنوانه، لكننا كنا في انتظار أن يرسل إلينا عنوانه عندما يستقر هناك، سألوا عن المكان المخصص في البيت لنومه، والمكتب الذي يراجع فوقه مواد دراسته، فأرشدهم والدي إلى غرفته المخصصة له في الدور الأرضي من منزلنا.
اندسست أراقبهم يقلبون في كل شيء، وعلى وجه خاص الكتب التي جمعها أخي في دولاب صغير يسميه "مكتبته".
لكن ما أثار دهشتي، أنهم اتجهوا إلى "سلة المهملات"، فأفرغوها فوق مكتبه، وراحوا يقلبون في كل قطعة ورق ممزقة في السلة، يقرأونها باهتمام، ثم حفظوها معهم باهتمام!
سألت نفسي: "هل يمكن أن يكون في مثل هذا الورق المهمل، سبب لكل هذا الغزو المفاجئ لبيتنا؟ "
وعندما تجمعوا لينسحبوا تصورت أن الغزو انتهى، لكنهم تركوا وراءهم رجل شرطة جلس على مقعد أمام مدخل بيتنا، للقبض على يوسف إذا حدث وعاد إلى البيت !
وبعد أيام، اختفى رجل الشرطة، ففهمنا أن شيئًا قد حدث !
وانطلق أبي إلى أحد المحامين، فعرف أنه تم القبض على يوسف، وإحضاره إلى القاهرة من التل الكبير، ثم أودعوه قسم مصر القديمة إلى أن تتم النيابة تحقيقاتها معه .
تحقيقات حول ماذا؟ لم نصل إلى أحد ليجيب عن سؤالنا .
أخيرًا عرفنا أنه صدر قرار بحبسه تحت التحقيق في سجن مصر بجوار القلعة، بعد أن تم اتهامه "بالانضمام إلى جماعة تهدف قلب نظام الحكم" - وذلك بعد أن اكتشفوا أنه حضر ندوة أو محاضرة قيلت فيها أشياء وصفوها بأنها "خطيرة".
وقضى يوسف تسعة أشهر في "قرميدان" تحت التحقيق . وسأل والدي المحامى: "ما هي العقوبات المتوقعة لمثل هذه التهمة؟" وعاد والدي إلى البيت مهمومًا، فقد قال له المحامي "العقوبة قد تصل إلى الإعدام أو الاشغال الشاقة المؤبدة !"
سألت نفسي: "هل تطارد السلطات أخي بسبب قصاصات ممزقة وجدوها في سلة المهملات بغرفته؟ "
وبعد هذه الشهور الطويلة، أصدر قاضي التحقيق قراره بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضد أخي وبقية زملائه، فليست هناك أية جماعة، ولا اتفاق جنائي، ولا محاولة لقلب النظام، لكنهم طلبة دفعهم حب الاستطلاع إلى الذهاب للاستماع إلى محاضرة عن "العدل الاجتماعي".
وعندما عاد أخي في منتصف العام الدراسي التالى إلى الجامعة، اكتشف أن شهور السجن جعلت منه "بطلاً"، ينظر إليه الزملاء والزميلات كرائد في العمل السياسي .
لقد ظنت أجهزة الأمن أنها لقنته مع زملائه درسًا عقابًا له لشغفه بأن يعرف، وأن يتعرف على معنى "العدل الاجتماعي " .لكنني اكتشفت أن ما تعلمه أخي يوسف كان شيئًا مختلفًا تمامًا عما قصدت إليه أجهزة الأمن !!
ففي عام 1946، قام إسماعيل صدقي رئيس الوزراء، بحملة ضد الصحفيين والمفكرين والكتاب، وذلك عندما تحركت المنظمات الشعبية تعقد المؤتمرات وترتب المظاهرات احتجاجًا على فكرة تكوين "لجنة الدفاع المشترك" بين مصر وبريطانيا. وأصدرت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة بيانًا حددوا فيه يوم 11 يوليو/تموز 1946 (ذكرى ضرب الإنجليز للإسكندرية عام 1882) يومًا للحداد العام وبدء الجهاد الوطني .
وهنا أسفر صدقي عن وجهه الحقيقي، وقام في اليوم السابق على الإضراب، باعتقال حوالي مائتين من الكتاب والصحفيين وزعماء اللجنة الوطنية ونقابات العمال والطلبة، وأغلق كثيرًا من دور النشر والجمعيات ذات الطابع التقدمي، مثل دار الأبحاث العلمية ولجنة نشر الثقافة الحديثة ودار القرن العشرين والجامعة الشعبية الأهلية واتحاد خريجى الجامعة وجامعة أم درمان ومؤتمر نقابات عمال القطر المصري ونادي الشرقية ورابطة بعثات الجامعة والمعاهد، كما أغلق نهائيًّا صحف ومجلات الفجر الجديد والجبهة وأم درمان والعراق واليراع والضمير والوفد المصري، وصادر لعدة أيام جرائد المصري والكتلة ومصر الفتاة، ومنع الاحتفال بيوم 11 يوليو/تموز .
وأطلق على هذه الحملة "قضية المبادئ الهدامة"، وألصق بالمعتقلين تهمة الشيوعيين، وكان منهم سلامة موسى والدكتور محمد مندور ومحمد زكي عبدالقادر وغيرهم .
وكانت هذه الحملة نقطة تحول في أسلوب السلطة التنفيذية، إذ جعلت تهمة (الشيوعية) سيفًا مصلتًا على رقاب كل الوطنيين الذين يقفون موقف المعارضة لربط مصر بعجلة الاستعمار. (راجع أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو - الجزء الأول - صفحة 106)
وأصدر صدقي بيانًا نشرته الصحف على صفحتين كاملتين، تبريرًا لفعلته، وتضمن البيان مقتطفات طويلة مما نشرته الصحف والمجلات التي أغلقها أو صادرها .
وفوجئنا نحن، أخوة يوسف، بأن البيان تضمن أكثر من عشرة مقتطفات من مقالات نشرها يوسف في عدد كبير من المجلات التي تم إغلاقها، بعضها كان موقعًا باسمه، وعدد كبير منها بأسماء مستعارة.
وهكذا اكتشفنا أن شهور السجن كانت مدرسة، قرأ فيها يوسف الكثير، وسمع الكثير، وتأمل وفكر في الكثير، فواصل على مدى أربع سنوات المقاومة بالكلمة والفكرة والقصة .
وتوقعنا أن تقتحم بيتنا حملة مشابهة لحملة سنة 1942، لكن يبدو أن أحدًا لم يتوصل إلى صاحب الاسم الحقيقي للأسماء المستعارة للكتابات التى كانت من بين ما استندت إليه أجهزة صدقي في المصادرة والإغلاق .
ولا بد أن نسأل عن أثر هذا الوقوف على حافة الخطر عام 1946، بعد أربع سنوات من الخروج من السجن عام 1942 .
سنجد الإجابة في أثر يوسف الشاروني على أحد أخوته الأصغر منه .
أخي المرحوم شكري، الذي توفى بأزمة قلبية عام 1970، بعد أن كان قد أصبح أحد كبار صناعة ملابس الأطفال فى مصر .
عندما قامت ثورة 1952، كان أخي شكرى معتقلاً في معتقل الهايكستب، لأنه تزعم مظاهرات واعتصامات موظفي وعمال إحدى الشركات الأجنبية التي كانت تعمل في مصر، يطالبون بتحسين أحوال العمال .
وبعد قيام الثورة بأربعة أيام، حملت سيارات نقل كل المعتقلين إلى ميدان التحرير، وتركتهم أحرارًا يعودون إلى بيوتهم .
هل أستطيع أن أقول أيضًا، إن أحد أهم الآثار التي تركها يوسف الشاروني في أخوته، أن الناقدة الإيطالية الدكتورة ماريا ألبانو، أستاذ الأدب العربي في جامعة نابولي، والمتخصصة في دراسات أدب الأطفال في العالم العربي، كتبت عن يعقوب الشاروني تقول: "والفضل الكبير للشاروني في إدخال الرواية الاجتماعية في أدب الأطفال في العالم العربي". (يراجع كتاب: القصة المصرية الحديثة للأطفال - تأليف د . ماريا ألبانو - الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - صفحة 27 .(
إن الأدب العظيم هو القادر، بقوة الفن وحده - وليس بالهتافات - أن يغير، وأن يحمل الناس على أن يفكروا على نحو مختلف، لكي يتغيروا، وأن يصبحوا قادرين على التغيير.
منذ خمسة عشر عامًا، عندما كنا نحتفل ببلوغ أخي الأكبر يوسف الشاروني الخامسة والسبعين، قلت كلمة بعنوان "يوسف الشاروني بين التناغم والتمرد"، ذكرت فيها أن "اللافت للنظر أنه، مع هذا التناغم الذى يقوم عليه عدد كبير من قصص يوسف الشاروني، فإن هذا هو الشكل الذي اختاره ليعبر من خلاله في معظم قصصه عن التمرد".
وذكرت أن "روح التمرد هذه تسفر عن نفسها بوضوح في شخصيات وموضوعات قصصه ... التمرد كنوع من الاحتجاج على ما يحيط الإنسان من ضغوط وأوضاع وتحديات ... إن معظم شخصيات يوسف الشاروني .. تتمرد على الواقع الذي تعيشه، وتسعى إلى تغييره".
كما أكدتُ على أننا: "نجد أنفسنا أمام أعمال فنية توحي بجوانب إيجابية، تعطي الأمل في التغيير وتحث عليه .. إنها احتجاج على الواقع، قد يفقد فيه البطل الحب أو الحياة أو العقل، لكن قصص يوسف الشاروني، من خلال ذلك كله، وبما يختار الكاتب من ألفاظ وعبارات وصياغة، تؤكد دائمًا، من خلال الفن، أنه في قدرة الإنسان أن يغير دائمًا هذا الواقع إلى الأفضل".
وأضفت: "لقد وجدتُ دائمًا أنه، مع البناء الفني المحكم لمعظم قصص يوسف الشاروني، فإنه يوجد خلف كل قصة شيء يريد أن يقوله، وأوضح هذه الأشياء أنه في قدرة الإنسان أن يغير الأوضاع التي تقيده وتكبله والتي لا يرضى عنها".
وأوردت، دليلاً على ما أقول، أمثلة واضحة من قصة "مصرع عباس الحلو" وقصة "رسالة إلى امرأة" - وأضيف هنا قصة "الحذاء" أيضًا .
***
لكنني لاحظت أن عددًا من النقاد، أو من تناولوا قصص الشاروني بالتعليق، قد ركزوا معظم ملاحظاتهم على أن "الشاروني قاد وأثرى الجانب التعبيري في القصة "(اقرأ شعبان يوسف - كتاب رسالة إلى امرأة - ص 172 .(
وأفاضوا في الحديث عن الابتكار في المعالجة، وقوة التأمل، وسرد المشاعر والأحاسيس التي تدور في نفس الإنسان (د . ريمون فرنسيس)
بل يقول شعبان يوسف: إن معظم قصص الشاروني تدور في أُطر أسرية حميمة، ولا ترفع شعارات الظلم والعدالة الاجتماعية .. ، ثم يؤكد أن "القصة عند يوسف الشاروني ليست منطوية على هدف معين سياسيًّا أو إصلاحيًّا " .
لهذا إذا كنت تحدثت، منذ خمسة عشر عامًا عن "التناغم" في قصص يوسف الشاروني، فحديثي اليوم لن يكون إلا عن "التمرد" في حياته وقصصه. ولن يكون إلا عما يوجد خلف كل قصة من شيء يريد أن يقوله، وعلى وجه خاص قدرة الإنسان على أن يغير الأوضاع التي لا يرضى عنها.
***
في عام 1942، عندما كنت في العاشرة من عمري، في السنة الرابعة الابتدائية، كان أخي يوسف قد أتم السنة الأولى من دراسته بقسم الفلسفة وعلم النفس بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وعند بداية العطلة الصيفية، اتفق مع عدد من زملائه أن يذهبوا إلى مدينة التل الكبير، لتجربة العمل في المتاجر التي كانت تبيع كل شيء للجنود الإنجليز الذين كانوا يتمركزون في المدن الممتدة على طول قناة السويس والقريبة منها .
سافر في الصباح .. وعند منتصف الليل، فوجئنا، في بيتنا، بطرقات عنيفة على باب البيت .. فزعنا من نومنا منزعجين، وما إن فتحنا الباب ، حتى اندفع إلى الداخل مجموعة من الرجال، بعضهم يرتدى البدلة وبعضهم الملابس البلدية، ومعهم عدد من جنود الشرطة .. وانتشروا، بغير استئذان، في كل أنحاء البيت .. وفجأة سأل أحدهم - اتضح فيما بعد أنه من ضباط القسم السياسي - أين المدعو يوسف اسحق؟
وهكذا اكتشفنا، والدي ووالدتي ونحن أخوته وأخواته الصغار، أن كل هذا العدد الذي اقتحم بيتنا، إنما يبحثون عن أخي الذي لم يكن قد بلغ بعد السابعة عشرة من عمره، والذي ذهب وحده في أول مغامرة له ليجرب عالم العمل أو الوظيفة .
لكن .. لماذا؟
لم يحاول أحد أن يجيب عن تساؤلاتنا .
أخبره والدي أن يوسف سافر في الصباح إلى التل الكبير ليشتغل. طلبوا عنوانه، لكننا كنا في انتظار أن يرسل إلينا عنوانه عندما يستقر هناك، سألوا عن المكان المخصص في البيت لنومه، والمكتب الذي يراجع فوقه مواد دراسته، فأرشدهم والدي إلى غرفته المخصصة له في الدور الأرضي من منزلنا.
اندسست أراقبهم يقلبون في كل شيء، وعلى وجه خاص الكتب التي جمعها أخي في دولاب صغير يسميه "مكتبته".
لكن ما أثار دهشتي، أنهم اتجهوا إلى "سلة المهملات"، فأفرغوها فوق مكتبه، وراحوا يقلبون في كل قطعة ورق ممزقة في السلة، يقرأونها باهتمام، ثم حفظوها معهم باهتمام!
سألت نفسي: "هل يمكن أن يكون في مثل هذا الورق المهمل، سبب لكل هذا الغزو المفاجئ لبيتنا؟ "
وعندما تجمعوا لينسحبوا تصورت أن الغزو انتهى، لكنهم تركوا وراءهم رجل شرطة جلس على مقعد أمام مدخل بيتنا، للقبض على يوسف إذا حدث وعاد إلى البيت !
وبعد أيام، اختفى رجل الشرطة، ففهمنا أن شيئًا قد حدث !
وانطلق أبي إلى أحد المحامين، فعرف أنه تم القبض على يوسف، وإحضاره إلى القاهرة من التل الكبير، ثم أودعوه قسم مصر القديمة إلى أن تتم النيابة تحقيقاتها معه .
تحقيقات حول ماذا؟ لم نصل إلى أحد ليجيب عن سؤالنا .
أخيرًا عرفنا أنه صدر قرار بحبسه تحت التحقيق في سجن مصر بجوار القلعة، بعد أن تم اتهامه "بالانضمام إلى جماعة تهدف قلب نظام الحكم" - وذلك بعد أن اكتشفوا أنه حضر ندوة أو محاضرة قيلت فيها أشياء وصفوها بأنها "خطيرة".
وقضى يوسف تسعة أشهر في "قرميدان" تحت التحقيق . وسأل والدي المحامى: "ما هي العقوبات المتوقعة لمثل هذه التهمة؟" وعاد والدي إلى البيت مهمومًا، فقد قال له المحامي "العقوبة قد تصل إلى الإعدام أو الاشغال الشاقة المؤبدة !"
سألت نفسي: "هل تطارد السلطات أخي بسبب قصاصات ممزقة وجدوها في سلة المهملات بغرفته؟ "
وبعد هذه الشهور الطويلة، أصدر قاضي التحقيق قراره بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضد أخي وبقية زملائه، فليست هناك أية جماعة، ولا اتفاق جنائي، ولا محاولة لقلب النظام، لكنهم طلبة دفعهم حب الاستطلاع إلى الذهاب للاستماع إلى محاضرة عن "العدل الاجتماعي".
وعندما عاد أخي في منتصف العام الدراسي التالى إلى الجامعة، اكتشف أن شهور السجن جعلت منه "بطلاً"، ينظر إليه الزملاء والزميلات كرائد في العمل السياسي .
لقد ظنت أجهزة الأمن أنها لقنته مع زملائه درسًا عقابًا له لشغفه بأن يعرف، وأن يتعرف على معنى "العدل الاجتماعي " .لكنني اكتشفت أن ما تعلمه أخي يوسف كان شيئًا مختلفًا تمامًا عما قصدت إليه أجهزة الأمن !!
ففي عام 1946، قام إسماعيل صدقي رئيس الوزراء، بحملة ضد الصحفيين والمفكرين والكتاب، وذلك عندما تحركت المنظمات الشعبية تعقد المؤتمرات وترتب المظاهرات احتجاجًا على فكرة تكوين "لجنة الدفاع المشترك" بين مصر وبريطانيا. وأصدرت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة بيانًا حددوا فيه يوم 11 يوليو/تموز 1946 (ذكرى ضرب الإنجليز للإسكندرية عام 1882) يومًا للحداد العام وبدء الجهاد الوطني .
وهنا أسفر صدقي عن وجهه الحقيقي، وقام في اليوم السابق على الإضراب، باعتقال حوالي مائتين من الكتاب والصحفيين وزعماء اللجنة الوطنية ونقابات العمال والطلبة، وأغلق كثيرًا من دور النشر والجمعيات ذات الطابع التقدمي، مثل دار الأبحاث العلمية ولجنة نشر الثقافة الحديثة ودار القرن العشرين والجامعة الشعبية الأهلية واتحاد خريجى الجامعة وجامعة أم درمان ومؤتمر نقابات عمال القطر المصري ونادي الشرقية ورابطة بعثات الجامعة والمعاهد، كما أغلق نهائيًّا صحف ومجلات الفجر الجديد والجبهة وأم درمان والعراق واليراع والضمير والوفد المصري، وصادر لعدة أيام جرائد المصري والكتلة ومصر الفتاة، ومنع الاحتفال بيوم 11 يوليو/تموز .
وأطلق على هذه الحملة "قضية المبادئ الهدامة"، وألصق بالمعتقلين تهمة الشيوعيين، وكان منهم سلامة موسى والدكتور محمد مندور ومحمد زكي عبدالقادر وغيرهم .
وكانت هذه الحملة نقطة تحول في أسلوب السلطة التنفيذية، إذ جعلت تهمة (الشيوعية) سيفًا مصلتًا على رقاب كل الوطنيين الذين يقفون موقف المعارضة لربط مصر بعجلة الاستعمار. (راجع أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو - الجزء الأول - صفحة 106)
وأصدر صدقي بيانًا نشرته الصحف على صفحتين كاملتين، تبريرًا لفعلته، وتضمن البيان مقتطفات طويلة مما نشرته الصحف والمجلات التي أغلقها أو صادرها .
وفوجئنا نحن، أخوة يوسف، بأن البيان تضمن أكثر من عشرة مقتطفات من مقالات نشرها يوسف في عدد كبير من المجلات التي تم إغلاقها، بعضها كان موقعًا باسمه، وعدد كبير منها بأسماء مستعارة.
وهكذا اكتشفنا أن شهور السجن كانت مدرسة، قرأ فيها يوسف الكثير، وسمع الكثير، وتأمل وفكر في الكثير، فواصل على مدى أربع سنوات المقاومة بالكلمة والفكرة والقصة .
وتوقعنا أن تقتحم بيتنا حملة مشابهة لحملة سنة 1942، لكن يبدو أن أحدًا لم يتوصل إلى صاحب الاسم الحقيقي للأسماء المستعارة للكتابات التى كانت من بين ما استندت إليه أجهزة صدقي في المصادرة والإغلاق .
ولا بد أن نسأل عن أثر هذا الوقوف على حافة الخطر عام 1946، بعد أربع سنوات من الخروج من السجن عام 1942 .
سنجد الإجابة في أثر يوسف الشاروني على أحد أخوته الأصغر منه .
أخي المرحوم شكري، الذي توفى بأزمة قلبية عام 1970، بعد أن كان قد أصبح أحد كبار صناعة ملابس الأطفال فى مصر .
عندما قامت ثورة 1952، كان أخي شكرى معتقلاً في معتقل الهايكستب، لأنه تزعم مظاهرات واعتصامات موظفي وعمال إحدى الشركات الأجنبية التي كانت تعمل في مصر، يطالبون بتحسين أحوال العمال .
وبعد قيام الثورة بأربعة أيام، حملت سيارات نقل كل المعتقلين إلى ميدان التحرير، وتركتهم أحرارًا يعودون إلى بيوتهم .
هل أستطيع أن أقول أيضًا، إن أحد أهم الآثار التي تركها يوسف الشاروني في أخوته، أن الناقدة الإيطالية الدكتورة ماريا ألبانو، أستاذ الأدب العربي في جامعة نابولي، والمتخصصة في دراسات أدب الأطفال في العالم العربي، كتبت عن يعقوب الشاروني تقول: "والفضل الكبير للشاروني في إدخال الرواية الاجتماعية في أدب الأطفال في العالم العربي". (يراجع كتاب: القصة المصرية الحديثة للأطفال - تأليف د . ماريا ألبانو - الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - صفحة 27 .(
إن الأدب العظيم هو القادر، بقوة الفن وحده - وليس بالهتافات - أن يغير، وأن يحمل الناس على أن يفكروا على نحو مختلف، لكي يتغيروا، وأن يصبحوا قادرين على التغيير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.