غداً.. قطع المياه لمدة 5 ساعات عن عدد من مناطق القاهرة    إعلام سوري: الدفاعات الجوية تتصدى لأهداف معادية قبالة سواحل مدينة جبلة غربي البلاد    الجيش الإسرائيلي يعلن تنفيذ ضربات دقيقة على الضاحية الجنوبية لبيروت    عام على حرب غزة، إسرائيل "محت" 902 عائلة بقتل كامل أفرادها    مجموعة السبع تدين الهجوم الصاروخي الإيراني وتؤكد أن السلام لا يزال ممكنا    صفقة مفاجئة في طريقها إلى الأهلي بتوصية من مختار مختار    موعد مباراة نيس الفرنسي ولاتسيو في الدوري الأوروبي والقناة الناقلة.. ظهور محتمل لعبدالمنعم    هجوم جديد ضد أحمد بلال بعد سخريته من الزمالك قبل السوبر الإفريقي    حركة تنقلات محدودة في «تموين كفر الشيخ»    بعد إعلانها اعتزال التمثيل نهائيًا.. من هي منى جبر؟ (تقرير)    حكم الشرع في أخذ مال الزوج دون علمه.. الإفتاء توضح    قوتها تصل ل265 حصان... شاهد سكودا سوبيرب الجديدة    خلو ماكينات صرف الأموال في ألمانيا من النقود بسبب إضراب    بعد أزمة الشيخ التيجاني.. «الصوفية» بريئة من البدع.. و«الفكر الوسطى» هو الحل    "فوز ليفربول وهزيمة الريال".. نتائج مباريات أمس في دوري أبطال أوروبا    نجيب ساويرس: الواحد مبقاش عارف مين بيمثل ومين حقيقي    «البلدي.. لا يوكل» في الذهب| خبراء: حان وقت الشراء وخاصة السبائك    أسعار الفراخ اليوم الخميس 3 أكتوبر 2024 بالأسواق.. وبورصة الدواجن الآن    بشرى سارة.. علاج امرأة مصابة بالسكري من النوع الأول    منها تقليل خطر الزهايمر.. 7 فوائد لشرب القهوة    ما هي الصدقة الجارية والغير جارية.. مركز الأزهر يوضح    هانئ مباشر يكتب: غربان الحروب    كيفية إخراج زكاة التجارة.. على المال كله أم الأرباح فقط؟    محلل: بايدن لا يملك السيطرة على نتنياهو.. وإسرائيل لا تملك إلا خيار الرد    نجوم 21 فرقة تضىء مهرجان «الإسماعيلية للفنون الشعبية»    أمل جديد لمرضى القلب.. تصوير مقطعي لتقييم تدفق الدم    تعرف على أسباب استبعاد إمام عاشور من قائمة منتخب مصر    أمريكا...عضو بمجلس الاحتياط الاتحادي يؤكد استمرار مشكلة التضخم    درجات الحرارة بمدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى في القاهرة 30    "قومي المرأة" بالمنيا يناقش تفعيل مبادرة "بداية" لتعزيز التنمية البشرية وتمكين المرأة    الانقلاب يدعم المقاومة الفلسطينية بتجديد حبس 153 شاباً بتظاهرات نصرة غزة ً وحبس مخفياً قسراً    حقيقة مقتل النائب أمين شري في الغارة الإسرائيلية على بيروت    حرب أكتوبر.. اكتئاب قائد المظلات الإسرائيلي بعد فقد جنوده أمام كتيبة «16 مشاة»    وكالة مرموش تكشف تطورات مستقبله مع فرانكفورت بعد وصول عروض مغرية    محافظ الفيوم يُكرّم الحاصلين على كأس العالم لكرة اليد للكراسي المتحركة    رئيس مياه دمياط يؤكد ضرورة تطبيق أفضل نظم التشغيل بالمحطات لتقديم خدمة متميزة للمواطنين    فوز مثير ل يوفنتوس على لايبزيج في دوري أبطال أوروبا    عبد العزيز مخيون يكشف تفاصيل مشاركته في الجزء الثاني من مسلسل جودر    حظك اليوم| برج السرطان الخميس 3 أكتوبر.. «ثق بغرائزك واتبع مشاعرك الصادقة»    حظك اليوم| برج الميزان الخميس 3 أكتوبر.. «فرصة لإعادة تقييم أهدافك وطموحاتك»    حظك اليوم| برج الأسد 3 أكتوبر.. «يوما مليئ بالإنجاز والفرح»    نشرة التوك شو| الزراعة تتصدى لارتفاع أسعار البيض والبطاطس.. وتأثر النفط والذهب بالضربات الإيرانية    وزير الصحة الأسبق: هويتنا تعرضت للعبث.. ونحتاج لحفظ الذاكرة الوطنية    حدث ليلا| حقيقة زلزال المعادي.. وحقوق المنوفية توضح تفاصيل واقعة سب أستاذ للطلاب بألفاظ نابية    قتلت زوجها بمساعدة شقيقه.. الجنايات تستكمل محاكمة "شيطانة الصف" اليوم    تعدد الزوجات حرام.. أزهري يفجر مفاجأة    ضبط 400 كيلو أسماك مملحة غير صالحة للاستهلاك الآدمي بكفر الشيخ    ضبط بدال تمويني تصرف فى كمية من الزيت المدعم بكفر الشيخ    ضبط تشكيل عصابي بتهمة الاتجار في المواد المخدرة بطوخ بالقليوبية    دمياط.. انطلاق فعاليات المبادرة الرئاسية بداية بقرية شرمساح    «احذر خطر الحريق».. خطأ شائع عند استخدام «الإير فراير» (تعرف عليه)    زوجة دياب تمازحه بال«وزة» ..وتعلق :«حققت امنيتي»    انتى لستِ أمه.. 4 نوعيات من النساء ينفر منهن الرجال (تعرفي عليهن)    عمرو موسي والسفير العراقي بالقاهرة يبحثان القضايا العربية على الساحة الدولية    ضبط 3 أطنان لحوم حواوشي غير مطابقة للمواصفات في ثلاجة بدون ترخيص بالقليوبية    اغتيال صهر حسن نصر الله في غارة إسرائيلية على دمشق    أستون فيلا ينتزع فوزا صعبا من بايرن ميونخ في دوري الأبطال    سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 3 أكتوبر 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية مجهولة تكشف بداية جورج بيريك المتعثرة
نشر في صوت البلد يوم 21 - 12 - 2016

نعرف جيداً الصرح الأدبي الذي شيّده الكاتب الفرنسي جورج بيريك (1936- 1982)، لكنّ الأساس الذي ارتفع عليه هذا الصرح كان لا يزال مجهولاً حتى هذا العام. والمقصود هنا، الرواية الأولى التي وضعها بيريك بعنوان «اعتداء ساراييفو»، وأصبح في إمكاننا اليوم قراءتها بعد صدورها حديثاً عن دار «سوي» الباريسية.
مخطوط هذه الرواية كان ضائعاً، قبل أن يُعثَر أخيراً على نسخة مصحّحة منه لدى ابنة عم الكاتب، إيلا بيينينفيلد، وعلى نسخته الأولى لدى إحدى زميلاته من أيام الدراسة. وكانت هذه المرأة لعبت عام 1957، دور السكرتيرة التي أملى بيريك عليها شفهياً نصّه بظرف خلا ثلاثة وخمسين يوماً. وفي ذلك العام، كان صاحب «الحياة، دليل الاستعمال» في سنّ الواحدة والعشرين وكان يرغب بقوة في الكتابة، لكنّ عدم تمكّنه من ذلك دفعه الى السفر إلى يوغوسلافيا لمدة ستة أسابيع. رحلة منحته مادة هذه الرواية التي أرسلها، بعد رفض دار «سوي» نشرها، إلى الناقد الكبير موريس نادو. وقد أثنى على موهبته لكنه دعاه، في الرسالة التي وجّهها إليه، إلى وضع هذه الرواية جانباً والانطلاق في كتابة رواية أخرى.
وبغية فهم مضمون «اعتداء ساراييفو» وظروف كتابتها، لا بد من العودة مجدداً إلى عام 1957 للإشارة إلى أن بيريك كان يعاشر في تلك الفترة مجموعة من الكتّاب والفنانين اليوغوسلافيين، أبرزهم مؤرّخ الفن زاركو فيدوفيتش الذي صادقه وعرّفه إلى عشيقته ميلكا كاناك، فوقع بيريك في حبّها فوراً ولحق بها إلى بلغراد على أمل إغوائها. ومع أنه فشل في بلوغ مبتغاه، ساهمت هذه التجربة في شفائه من مرض النهك العصبي (neurasthénie)، فأوقف التحليل النفسي الذي كان بدأه قبل عام، وأملى على زميلته روايته الأولى.
ماذا حصل في ساراييفو؟ السؤال المطروح منذ الفصل الأول من الرواية ذو طبيعة مزدوجة. فهل يكشف بيريك في هذا العمل سرّاً حول ظروف اغتيال وليّ العهد النمسوي، الأرشيدوق فرنسوا فردينان، وفي الوقت نفسه، ظروف علاقته بالشابة ميلكاو وتفاصيلها؟ الأكيد أنه لم يكن يملك بعد القدرات الكتابية واللعبية المذهلة التي تجلّت لاحقاً في مجموعة «أوليبو» الطليعية، ولا النظرة المحرّرة من الأوهام لصاحب «الأشياء» (1965) و«رجل نائم» (1967). فما أن نبدأ القراءة حتى يتبيّن لنا أن الرواية المكتوبة بصيغة المتكلم هي كلاسيكية، ترتكز عملية السرد فيها على الاستنباط والتحليل السيكولوجي، وتتبع في بدايتها حرفياً ما نعرفه عن قصة الكاتب مع زاركو وميلكا، مع تعديل بسيط في الأسماء.
بطل الرواية وراويها هو فعلاً شاب فرنسي يرتبط في باريس بصداقة مع مفكّرين وفنانين صربيين، واحدٌ منهم يدعى برانكو ويعرّفه إلى عشيقته ميلا حين تأتي إلى باريس لزيارته، فيقع الراوي في حبّها. وبما أن هذه الشابة الجميلة تعيش في بلغراد، يلحق بها إلى هذه المدينة عازماً على الارتباط بها بأي ثمن، بينما يعود برانكو إلى ساراييفو حيث يعيش مع زوجته. وبعد محاولات حثيثة، ينجح الراوي في كسب قلب ميلا. لكن بما أن برانكو يملك سطوة كبيرة عليها، يسافر الراوي إلى ساراييفو من أجل إقناعه بضرورة التخلّي عن عشيقته لمصلحته. وحين يفشل في ذلك، يدبّر مكيدة له عبر دفع زوجته إلى اغتياله.
وتمنح هذه المكيدة المحاكة بدهاء بيريك فرصة للعودة إلى عملية اغتيال نفّذها الصربي القومي الشاب غافريلو برينسيب عام 1914 ضد الأرشيدوق فرنسوا فردينان، وكانت الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى. وفي هذا السياق، نراه يخطّ مرافعة يعيد فيها تأهيل الشاب برينسيب الذي لم يفلت من حبل المشنقة إلا لأنه لم يكن قد تجاوز سن العشرين أثناء فعلته. عمليتا اغتيال إذاً، تتشابك فصولهما داخل الرواية ويطرح بيريك عبرهما مجموعة أسئلة تليق بشخصية راسكولنيكوف في رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب». أسئلة كثيرة تتقاطر نحو سؤال جوهري واحد: مَن المسؤول الحقيقي عن جريمة، منفّذها أم مَن هيّأ ظروفها وأوحى للمنفّذ بارتكابها؟
«اعتداء ساراييفو» ليست رواية ناجحة، بل تعاني من شوائب عدة لعل أبرزها إسهاب أو ربما حشو في بعض فصولها، ما أنتج خللاً في إيقاعها السردي، وضعفاً في تصوير عذابات بعض الشخصيات وتحليلها. وبالتالي، إن دلّت هذه الرواية على شيء فعلى أن عبقرية بيريك، التي ظهرت لاحقاً، لم تكن تكمن في النوع الروائي السيكولوجي ولا في سرد قصص عاطفية. وهذا ما يفسرّ عدم محاولته إعادة كتابتها، ملتزماً في ذلك بنصيحة الناقد موريس نادو.
لماذا إذاً عمدت دار «سوي» إلى نشرها اليوم؟ لأنها تحمل توقيع عملاق طبعاً، لكن خصوصاً لأنها تحمل في طيّاتها بذور أعمال بيريك اللاحقة. ففي هذا النص، يمكننا أولاً قياس مدى استعانة الروائي بسيرته الذاتية منذ بداية مساره. يمكننا أيضاً الاطّلاع على الإطار الروائي الأول الذي أدرج فيه قصة شخصية ضمن حدث تاريخي كبير، سارداً القصة والحدث بطريقة موازية، تماماً كما فعل لاحقاً في روايتي «ذكرى طفولية» و«سرديات من جزيرة إيليس».
أكثر من ذلك، يتجلّى بيريك الذي نعرفه من خلال النظرة التي يلقيها الراوي على الشابة ميلا. فقبل أن يتعرّف إليها، يُفتَن بصورتها التي يراها في غرفة عشيقها برانكو، ثم يمضي وقتاً طويلاً في تحليل الفارق بين الصورة والواقع، وهي وضعية اعتدناها في روايات الكاتب اللاحقة. يتجلى بيريك أيضاً من خلال سخرية الراوي الثابتة من نفسه وموقفه السلبي من منافسه برانكو الذي تعسكه الجملة التالية: «تجاه هذا الرجل الذي اختطفتُ منه امرأته، لم أكن أشعر بأي ذنب».
وفي السياق نفسه، يمكن الإشارة إلى الحضور الكلي لفكرة «اللعب» الغالية على قلب بيريك. فخلال تنافسه مع برانكو على حب ميلا، يقول الراوي: «أستخدمُ دائماً عبارات مستعارة من عالم الرياضة، مثل فرصة مواتية، تسجيل نقاط، تعادُل، ضربة حاسمة... كما لو أن ميلا هي كرة روكبي». وفعلاً، تبدو هذه الشابة في «اعتداء ساراييفو» كأنها رهانٍ ومحطّ أطماعٍ أكثر منها شخصية بذاتها، ويتطلب بلوغها تطوير استراتيجيات هجومية ومناورات وخداعاً واحتلال مواقع، كما في ألعاب مختلفة.
أحياناً، يمكن أن نستدل عبر نبرة الرواية إلى بيريك الذي نعرفه، علماً أننا نفتقده عندما نتأمّل في شكل الرواية الذي تنعدم فيه تلك الهندسة البهلوانية الرائعة التي عوّدنا عليها، أو حينما نفتّش عن تلك الطرافة الفريدة التي ألهبت نصوصه اللاحقة.
نعرف جيداً الصرح الأدبي الذي شيّده الكاتب الفرنسي جورج بيريك (1936- 1982)، لكنّ الأساس الذي ارتفع عليه هذا الصرح كان لا يزال مجهولاً حتى هذا العام. والمقصود هنا، الرواية الأولى التي وضعها بيريك بعنوان «اعتداء ساراييفو»، وأصبح في إمكاننا اليوم قراءتها بعد صدورها حديثاً عن دار «سوي» الباريسية.
مخطوط هذه الرواية كان ضائعاً، قبل أن يُعثَر أخيراً على نسخة مصحّحة منه لدى ابنة عم الكاتب، إيلا بيينينفيلد، وعلى نسخته الأولى لدى إحدى زميلاته من أيام الدراسة. وكانت هذه المرأة لعبت عام 1957، دور السكرتيرة التي أملى بيريك عليها شفهياً نصّه بظرف خلا ثلاثة وخمسين يوماً. وفي ذلك العام، كان صاحب «الحياة، دليل الاستعمال» في سنّ الواحدة والعشرين وكان يرغب بقوة في الكتابة، لكنّ عدم تمكّنه من ذلك دفعه الى السفر إلى يوغوسلافيا لمدة ستة أسابيع. رحلة منحته مادة هذه الرواية التي أرسلها، بعد رفض دار «سوي» نشرها، إلى الناقد الكبير موريس نادو. وقد أثنى على موهبته لكنه دعاه، في الرسالة التي وجّهها إليه، إلى وضع هذه الرواية جانباً والانطلاق في كتابة رواية أخرى.
وبغية فهم مضمون «اعتداء ساراييفو» وظروف كتابتها، لا بد من العودة مجدداً إلى عام 1957 للإشارة إلى أن بيريك كان يعاشر في تلك الفترة مجموعة من الكتّاب والفنانين اليوغوسلافيين، أبرزهم مؤرّخ الفن زاركو فيدوفيتش الذي صادقه وعرّفه إلى عشيقته ميلكا كاناك، فوقع بيريك في حبّها فوراً ولحق بها إلى بلغراد على أمل إغوائها. ومع أنه فشل في بلوغ مبتغاه، ساهمت هذه التجربة في شفائه من مرض النهك العصبي (neurasthénie)، فأوقف التحليل النفسي الذي كان بدأه قبل عام، وأملى على زميلته روايته الأولى.
ماذا حصل في ساراييفو؟ السؤال المطروح منذ الفصل الأول من الرواية ذو طبيعة مزدوجة. فهل يكشف بيريك في هذا العمل سرّاً حول ظروف اغتيال وليّ العهد النمسوي، الأرشيدوق فرنسوا فردينان، وفي الوقت نفسه، ظروف علاقته بالشابة ميلكاو وتفاصيلها؟ الأكيد أنه لم يكن يملك بعد القدرات الكتابية واللعبية المذهلة التي تجلّت لاحقاً في مجموعة «أوليبو» الطليعية، ولا النظرة المحرّرة من الأوهام لصاحب «الأشياء» (1965) و«رجل نائم» (1967). فما أن نبدأ القراءة حتى يتبيّن لنا أن الرواية المكتوبة بصيغة المتكلم هي كلاسيكية، ترتكز عملية السرد فيها على الاستنباط والتحليل السيكولوجي، وتتبع في بدايتها حرفياً ما نعرفه عن قصة الكاتب مع زاركو وميلكا، مع تعديل بسيط في الأسماء.
بطل الرواية وراويها هو فعلاً شاب فرنسي يرتبط في باريس بصداقة مع مفكّرين وفنانين صربيين، واحدٌ منهم يدعى برانكو ويعرّفه إلى عشيقته ميلا حين تأتي إلى باريس لزيارته، فيقع الراوي في حبّها. وبما أن هذه الشابة الجميلة تعيش في بلغراد، يلحق بها إلى هذه المدينة عازماً على الارتباط بها بأي ثمن، بينما يعود برانكو إلى ساراييفو حيث يعيش مع زوجته. وبعد محاولات حثيثة، ينجح الراوي في كسب قلب ميلا. لكن بما أن برانكو يملك سطوة كبيرة عليها، يسافر الراوي إلى ساراييفو من أجل إقناعه بضرورة التخلّي عن عشيقته لمصلحته. وحين يفشل في ذلك، يدبّر مكيدة له عبر دفع زوجته إلى اغتياله.
وتمنح هذه المكيدة المحاكة بدهاء بيريك فرصة للعودة إلى عملية اغتيال نفّذها الصربي القومي الشاب غافريلو برينسيب عام 1914 ضد الأرشيدوق فرنسوا فردينان، وكانت الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى. وفي هذا السياق، نراه يخطّ مرافعة يعيد فيها تأهيل الشاب برينسيب الذي لم يفلت من حبل المشنقة إلا لأنه لم يكن قد تجاوز سن العشرين أثناء فعلته. عمليتا اغتيال إذاً، تتشابك فصولهما داخل الرواية ويطرح بيريك عبرهما مجموعة أسئلة تليق بشخصية راسكولنيكوف في رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب». أسئلة كثيرة تتقاطر نحو سؤال جوهري واحد: مَن المسؤول الحقيقي عن جريمة، منفّذها أم مَن هيّأ ظروفها وأوحى للمنفّذ بارتكابها؟
«اعتداء ساراييفو» ليست رواية ناجحة، بل تعاني من شوائب عدة لعل أبرزها إسهاب أو ربما حشو في بعض فصولها، ما أنتج خللاً في إيقاعها السردي، وضعفاً في تصوير عذابات بعض الشخصيات وتحليلها. وبالتالي، إن دلّت هذه الرواية على شيء فعلى أن عبقرية بيريك، التي ظهرت لاحقاً، لم تكن تكمن في النوع الروائي السيكولوجي ولا في سرد قصص عاطفية. وهذا ما يفسرّ عدم محاولته إعادة كتابتها، ملتزماً في ذلك بنصيحة الناقد موريس نادو.
لماذا إذاً عمدت دار «سوي» إلى نشرها اليوم؟ لأنها تحمل توقيع عملاق طبعاً، لكن خصوصاً لأنها تحمل في طيّاتها بذور أعمال بيريك اللاحقة. ففي هذا النص، يمكننا أولاً قياس مدى استعانة الروائي بسيرته الذاتية منذ بداية مساره. يمكننا أيضاً الاطّلاع على الإطار الروائي الأول الذي أدرج فيه قصة شخصية ضمن حدث تاريخي كبير، سارداً القصة والحدث بطريقة موازية، تماماً كما فعل لاحقاً في روايتي «ذكرى طفولية» و«سرديات من جزيرة إيليس».
أكثر من ذلك، يتجلّى بيريك الذي نعرفه من خلال النظرة التي يلقيها الراوي على الشابة ميلا. فقبل أن يتعرّف إليها، يُفتَن بصورتها التي يراها في غرفة عشيقها برانكو، ثم يمضي وقتاً طويلاً في تحليل الفارق بين الصورة والواقع، وهي وضعية اعتدناها في روايات الكاتب اللاحقة. يتجلى بيريك أيضاً من خلال سخرية الراوي الثابتة من نفسه وموقفه السلبي من منافسه برانكو الذي تعسكه الجملة التالية: «تجاه هذا الرجل الذي اختطفتُ منه امرأته، لم أكن أشعر بأي ذنب».
وفي السياق نفسه، يمكن الإشارة إلى الحضور الكلي لفكرة «اللعب» الغالية على قلب بيريك. فخلال تنافسه مع برانكو على حب ميلا، يقول الراوي: «أستخدمُ دائماً عبارات مستعارة من عالم الرياضة، مثل فرصة مواتية، تسجيل نقاط، تعادُل، ضربة حاسمة... كما لو أن ميلا هي كرة روكبي». وفعلاً، تبدو هذه الشابة في «اعتداء ساراييفو» كأنها رهانٍ ومحطّ أطماعٍ أكثر منها شخصية بذاتها، ويتطلب بلوغها تطوير استراتيجيات هجومية ومناورات وخداعاً واحتلال مواقع، كما في ألعاب مختلفة.
أحياناً، يمكن أن نستدل عبر نبرة الرواية إلى بيريك الذي نعرفه، علماً أننا نفتقده عندما نتأمّل في شكل الرواية الذي تنعدم فيه تلك الهندسة البهلوانية الرائعة التي عوّدنا عليها، أو حينما نفتّش عن تلك الطرافة الفريدة التي ألهبت نصوصه اللاحقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.