في الوقت الذي كان يحاك للغة العربية ما يحاك لتقزيمها، وجعلها تنقرض، كان الشاعر فاروق شوشة ومنذ بداية زمن العولمة يتبع طه حسين، ويسير على نهجه لترسيخ لغتنا العربية الجميلة، وتمكينها من التطور، والتوسع في استخدامها شعبياً، وجعلها وحدها لغة الأدب، سواء كان شعراً أو نثراً، وليست اللهجات العامية. وفي اعتقادي أن عظمة فاروق شوشة لم تكن منبثقة من كونه يمتلك ناصية الشعر الجميل وحده، بل لأنه كان كان يمتلك إبداع "صياغة اللغة" كما يبدع الجواهري صياغة الذهب والألماس، ويجيد النطق بها لدرجة تخرج لغته الشعرية كنغم موسيقي، إضافة لكونها ذات معنى ومفهوم وخيال شاعري جميل.. إذ أنه لدى إلقائه، سواء في الخطابة الاحتفالية، أو في البث الإذاعي أو التلفازي، تجده يمتلك علم مخارج الحروف، ومعها موسيقية اللغة، لأن اللغة العربية ليست مجرد ألفاظ، بقدر ما هي كلمات، لحروفها مخارج سمعية تطرب، وتميزها حركة ونغم، ولها موسيقاها الخاصة بها. هل أقول هذا بصفتي إعلامي تعلمت الإلقاء الإذاعي والتقديم التلفازي من أسلوب فاروق شوشة، الهادىء الواضح الجميل، والذي كان يبدأ كل فقرة من فقرات برنامجه الإذاعي بموسيقى أغاني فيروز الساحرة الجمال، فيضم لبنان إلى القاهرة، وكأنه صانع حلوى اللغة العربية، يمزجها من صوت طه حسين بموسيقى فيروز، بحنجرة شوشة. كان شوشة من خلال برنامجه الإذاعي الرائد المتفرد في إذاعة القاهرة "لغتنا الجميلة"، يُعرفنا في كل حلقة على شاعر من عمالقة الشعراء العرب، ابتداء من شعراء الجاهلية مثل جميل بثينة، مرورا ببشار بن برد، الشاعر المخضرم بين العصر الأموي والعصر العباسي، وحتى شعراء اليوم، فيزيد ترابط العمود الفقري للشعر العربي قديمه بحديثه. ولقد عرفته أيضاً من خلال قراءته، فتورطت بالتمتع بأشعاره الجميلة، والتفكير في محتواها، والتدبر فيها، بعدما سمعت برنامجه الجميل هذا. وكتب فاروق الشعر الأصيل "الموزون المقفى"، الذي يتحزب له أصلاً، كما كتب الشعر الحداثي. وفي اعتقادي شخصياً أنه ساير الحداثة مجرد مسايرة، وذلك بكتابة الشعر بالأسلوب الحديث. وللمقارنة بين أشعاره الأصيلة، وأشعاره الحداثية، دعنا ندقق في مقطعين من قصيدتيه التاليتين؛ الأولى موزونة مقفاة، وهي من أجمل ما قيل عن بغداد، بشعر يدمي العين التي تقرأ، ويجرح الفؤاد الذي يحزن، وهي بعنوان: "بغداد يا بغداد!" وفيها يقول: كيف الرقاد! وأنت الخوف والخطر ** وليل بغداد ليل ماله قمر ها أنت فى الأسر: جلاد ومطرقة ** تهوي عليك وذئب بات ينتظر وذابحوك كثير؟ كلهم ظمأ ** إلى دماك؟ كأن قد مسهم سعر أين المفر؟ وهولاكو الجديد أتى ** يهيئون له أرضا فينتشر أنى التفتُّ فثَم الموت، تعزفه ** كفان بينهما التاريخ ينشطر تجده يبكي أحزان بغداد اليوم، بغداد الموصولة بالقاهرة، منذ (ألف ليلة وليلة) الرواية الأم، ومنذ هارون الرشيد وصلاح الدين الأيوبي اللذين جمعا مصر والعراق على المجد والعزة والفخار. تجده ينتمي لبغداد مثل انتمائه لمصر. وتجد مصر والعراق ينتميان معاً إلى اللغة العربية الواحدة التي تجعلهما بلداً واحداً، فما يسعد مصر يسعد العراق، وما يجرح مصر يجرح العراق. وفي قصيدته الحداثية، بعنوان "الليل" نقرأ بحزن عن الحالة التي وصلت إليها ضحالة مياه النيل، وكأنه توأم حزن بغداد، إذ يقول: ألقى النيل عباءته فوق البر الشرقي, ونامْ هذا الشيخ المحنيُّ الظهر، احدودب.. ثم تقوّس عبر الأيام. العمر امتد، وليل القهر اشتد وصاغ الوراقون فنون الكِذبة في إحكامْ! لكن الرحلة ماضية... والدرب سدود، والألغام ! وقف الشيخ النيل يحدق.. لم يلق وجوهاً يعرفها وبيوتاً كان يطل عليها وسماء كانت تعكس زرقته.. وهو يمد الخطو، ويسبق عزف الريح, ويفرد أشرعة الأحلام. وهنا نلاحظ أن النيل الموجوع، لا يقل مأساة عن مأساة العراق الشقيق، الذي يتعرض لكل من ينهش لحمه وينزف دمه. النيل هبة الله لمصر، الذي كان يفيض فيغرق أقدام أبو الهول العظيم، أصبح يمر اليوم خجولا يكاد يغطي أقدام النهر. ويقول في قصيدته: "والدرب سدود." وقد يقصد هنا السد الأثيوبي، وقد تكون سدود أخرى في بلاد أخرى لاحقة. ثم يقول: "والألغام" وكأنه يصف ما تتعرض له مصر من تفجير لغم هنا أو هناك. ولهذا فإن قلق فاروق شوشة على عصب الحياة في مصر يأتي في محله. وهنا يأتي استشراف المستقبل عند الشاعر الملتزم بقضايا وطنه. والذي يتحمل مسؤولية الأمانة الوطنية. ما يجعلك تحزن لفراق فاروق شوشة، هو مغادرته الحياة وهو يحمل الهمّ اللاحق للوطن الأم، مصر، وانشغاله بمشاعر الوطن العربي؛ ابن اللغة العربية. وكيف لا ينتمي لوطنه العربي، وهو يرى في أوروبا المتحدة، مائة وخمسين لغة مختلفة، بينما للوطن العربي من البحرين وحتى موريتانيا لغة واحدة، هي اللغة الجميلة التي يفترض أن نتمسك بها، ولكننا نلوثها بغريب الكلام، كما تلوثت أطعمتنا ب "المأكولات الغربية السريعة" التي يسميها الغرب "زبالة الطعام". لا أقول وداعاً فاروق شوشة.. فأشعارك ستبقى بين يدينا، وصوتك العذب مسجل على أنابيب الغرب التقنية، التي تأتينا كل صباح لنسمع منها "لغتنا الجميلة". في الوقت الذي كان يحاك للغة العربية ما يحاك لتقزيمها، وجعلها تنقرض، كان الشاعر فاروق شوشة ومنذ بداية زمن العولمة يتبع طه حسين، ويسير على نهجه لترسيخ لغتنا العربية الجميلة، وتمكينها من التطور، والتوسع في استخدامها شعبياً، وجعلها وحدها لغة الأدب، سواء كان شعراً أو نثراً، وليست اللهجات العامية. وفي اعتقادي أن عظمة فاروق شوشة لم تكن منبثقة من كونه يمتلك ناصية الشعر الجميل وحده، بل لأنه كان كان يمتلك إبداع "صياغة اللغة" كما يبدع الجواهري صياغة الذهب والألماس، ويجيد النطق بها لدرجة تخرج لغته الشعرية كنغم موسيقي، إضافة لكونها ذات معنى ومفهوم وخيال شاعري جميل.. إذ أنه لدى إلقائه، سواء في الخطابة الاحتفالية، أو في البث الإذاعي أو التلفازي، تجده يمتلك علم مخارج الحروف، ومعها موسيقية اللغة، لأن اللغة العربية ليست مجرد ألفاظ، بقدر ما هي كلمات، لحروفها مخارج سمعية تطرب، وتميزها حركة ونغم، ولها موسيقاها الخاصة بها. هل أقول هذا بصفتي إعلامي تعلمت الإلقاء الإذاعي والتقديم التلفازي من أسلوب فاروق شوشة، الهادىء الواضح الجميل، والذي كان يبدأ كل فقرة من فقرات برنامجه الإذاعي بموسيقى أغاني فيروز الساحرة الجمال، فيضم لبنان إلى القاهرة، وكأنه صانع حلوى اللغة العربية، يمزجها من صوت طه حسين بموسيقى فيروز، بحنجرة شوشة. كان شوشة من خلال برنامجه الإذاعي الرائد المتفرد في إذاعة القاهرة "لغتنا الجميلة"، يُعرفنا في كل حلقة على شاعر من عمالقة الشعراء العرب، ابتداء من شعراء الجاهلية مثل جميل بثينة، مرورا ببشار بن برد، الشاعر المخضرم بين العصر الأموي والعصر العباسي، وحتى شعراء اليوم، فيزيد ترابط العمود الفقري للشعر العربي قديمه بحديثه. ولقد عرفته أيضاً من خلال قراءته، فتورطت بالتمتع بأشعاره الجميلة، والتفكير في محتواها، والتدبر فيها، بعدما سمعت برنامجه الجميل هذا. وكتب فاروق الشعر الأصيل "الموزون المقفى"، الذي يتحزب له أصلاً، كما كتب الشعر الحداثي. وفي اعتقادي شخصياً أنه ساير الحداثة مجرد مسايرة، وذلك بكتابة الشعر بالأسلوب الحديث. وللمقارنة بين أشعاره الأصيلة، وأشعاره الحداثية، دعنا ندقق في مقطعين من قصيدتيه التاليتين؛ الأولى موزونة مقفاة، وهي من أجمل ما قيل عن بغداد، بشعر يدمي العين التي تقرأ، ويجرح الفؤاد الذي يحزن، وهي بعنوان: "بغداد يا بغداد!" وفيها يقول: كيف الرقاد! وأنت الخوف والخطر ** وليل بغداد ليل ماله قمر ها أنت فى الأسر: جلاد ومطرقة ** تهوي عليك وذئب بات ينتظر وذابحوك كثير؟ كلهم ظمأ ** إلى دماك؟ كأن قد مسهم سعر أين المفر؟ وهولاكو الجديد أتى ** يهيئون له أرضا فينتشر أنى التفتُّ فثَم الموت، تعزفه ** كفان بينهما التاريخ ينشطر تجده يبكي أحزان بغداد اليوم، بغداد الموصولة بالقاهرة، منذ (ألف ليلة وليلة) الرواية الأم، ومنذ هارون الرشيد وصلاح الدين الأيوبي اللذين جمعا مصر والعراق على المجد والعزة والفخار. تجده ينتمي لبغداد مثل انتمائه لمصر. وتجد مصر والعراق ينتميان معاً إلى اللغة العربية الواحدة التي تجعلهما بلداً واحداً، فما يسعد مصر يسعد العراق، وما يجرح مصر يجرح العراق. وفي قصيدته الحداثية، بعنوان "الليل" نقرأ بحزن عن الحالة التي وصلت إليها ضحالة مياه النيل، وكأنه توأم حزن بغداد، إذ يقول: ألقى النيل عباءته فوق البر الشرقي, ونامْ هذا الشيخ المحنيُّ الظهر، احدودب.. ثم تقوّس عبر الأيام. العمر امتد، وليل القهر اشتد وصاغ الوراقون فنون الكِذبة في إحكامْ! لكن الرحلة ماضية... والدرب سدود، والألغام ! وقف الشيخ النيل يحدق.. لم يلق وجوهاً يعرفها وبيوتاً كان يطل عليها وسماء كانت تعكس زرقته.. وهو يمد الخطو، ويسبق عزف الريح, ويفرد أشرعة الأحلام. وهنا نلاحظ أن النيل الموجوع، لا يقل مأساة عن مأساة العراق الشقيق، الذي يتعرض لكل من ينهش لحمه وينزف دمه. النيل هبة الله لمصر، الذي كان يفيض فيغرق أقدام أبو الهول العظيم، أصبح يمر اليوم خجولا يكاد يغطي أقدام النهر. ويقول في قصيدته: "والدرب سدود." وقد يقصد هنا السد الأثيوبي، وقد تكون سدود أخرى في بلاد أخرى لاحقة. ثم يقول: "والألغام" وكأنه يصف ما تتعرض له مصر من تفجير لغم هنا أو هناك. ولهذا فإن قلق فاروق شوشة على عصب الحياة في مصر يأتي في محله. وهنا يأتي استشراف المستقبل عند الشاعر الملتزم بقضايا وطنه. والذي يتحمل مسؤولية الأمانة الوطنية. ما يجعلك تحزن لفراق فاروق شوشة، هو مغادرته الحياة وهو يحمل الهمّ اللاحق للوطن الأم، مصر، وانشغاله بمشاعر الوطن العربي؛ ابن اللغة العربية. وكيف لا ينتمي لوطنه العربي، وهو يرى في أوروبا المتحدة، مائة وخمسين لغة مختلفة، بينما للوطن العربي من البحرين وحتى موريتانيا لغة واحدة، هي اللغة الجميلة التي يفترض أن نتمسك بها، ولكننا نلوثها بغريب الكلام، كما تلوثت أطعمتنا ب "المأكولات الغربية السريعة" التي يسميها الغرب "زبالة الطعام". لا أقول وداعاً فاروق شوشة.. فأشعارك ستبقى بين يدينا، وصوتك العذب مسجل على أنابيب الغرب التقنية، التي تأتينا كل صباح لنسمع منها "لغتنا الجميلة".