تسيطر علي الشارع حاليا مشاهد غريبة تخيم علي الممارسة الديمقراطية التي من المفترض ان الحكومة تنتهجها كخطوة اولي علي الطريق للديمقراطية فقد ظهرت الحركات الاجتماعية القائمة بأدوار الأحزاب السياسية كبديل عنها في شكل غير رسمي، والحقيقة ان تفسير هذا المشهد يكمن في تراجع دور الاحزاب المصرية عن التعبير عن مطالب المجتمع.. ففي خطوة اعتبرتها الاحزاب السياسية دعامة اساسية لها في مواجهة الحزب الحاكم الذي اكتسح أغلبية المقاعد تحت القبة البرلمانية، قررت هذه الاحزاب دمج نشاطها السياسي كأقلية داخل مجلس الشعب في مواجهة المارد الحاكم مع الحركات الاجتماعية وأنشطتها في المجتمع الخارجي، وذلك لدفع تطور المجتمع المصري واتاحة القدرة لديه علي تغيير السياسات وتجاوز الخطوط الحمراء التي لم تستطع تجاوزها خلال الانتخابات البرلمانية الحالية والتي انتهت باكتساح الحزب الوطني الديمقراطي وفوزه بثلثي المقاعد في مقابل منافسته ايضا للاحزاب المعارضة علي الثلث الاخير، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه حاليا: "هل تستطيع هذه الحركات بما لا تملكه من آليات للتغيير سوي الاعتصامات ان تحقق الاصلاح السياسي والاقتصادي في المجتمع بعد اندماجها مع الاحزاب المعارضة؟". يشير د. علي الدين هلال أمين الآعلام بالحزب الوطني الي أن الشارع المصري يعاني من الالتباس، والحركة الاجتماعية فيه تنطبق عليها فكرة دورة الحياة، موضحا ان أغلب الحركات الاحتجاجية افتراضية تعبر عن قوي زائفة لا تطرح مطالب حقيقية او تدرك لها اهدافا الا أن تقوم بعمل مظاهرات علي الفيس بوك ولا تستطيع التحرك في أرض الواقع. بينما يؤكد د. عمرو الشوبكي الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ان الحركات الاجتماعية قد تتحول لحركات سياسية، فهناك خبرات لمجتمعات كثيرة تحولت نحو الديمقراطية فحزب العمال في بريطانيا كان في اساسه حركة اجتماعية ومن خلاله حدثت الثورة الصناعية.. مشيرا الي ان الواقع السياسي المصري وجدت فيه الحركات الاحتجاجية في ظل ظروف سياسية لا تسمح بالتحول لعمل سياسي منظم، وأن فكرة الدمج بين السياسي والاجتماعي احدي الازمات في النظام المصري، فنتحدث عن احزاب وتيارات غير قادرة علي التواصل لاسباب مجتمعية مختلفة. ويقول د. الشوبكي: هناك حالة من الاستسهال في تراث الحركات الجديدة التي تحولت في معظمها الي المطالب الاجتماعية والقانونية، ولا تتواصل مع النشطاء السياسيين.. مشيرا الي ان فكرة تحول الحركات الاجتماعية الي سياسية حدثت في مجتمعات كثيرة ولم تحدث في مصر. ويوضح ان التطور المجتمعي لتلك الحركات يشير الي انها قامت علي مرحلتين؛ الاولي: تعبر عن احتجاج سياسي وغيرت الكثير من المفاهيم وأظهرت ثقافة الاحتجاج فمثلا حركة "كفاية" تجاوزت الخطوط الحمراء واستهدفت تغيير سياسات رئيس الجمهورية ورفضت شروط التوريث، فهي تجاوزت ما لم تستطع الاحزاب تجاوزه والتي فشلت في الوصول الي مشروع حقيقي. كما أن الانفصال بين العمل السياسي والاجتماعي سيستمر في المجتمع المصري ويحدث حالة من الجمود، موضحا أن الاحزاب تتعامل مع الحركات من منطلق الاستعلاء ولا تحاول دمجها، رغم قدرة الدمج علي تطوير النظام الحزبي في مصر وتطوير الخطاب السياسي، وبالتالي دخول قواعد جديدة، وتنبأ بعدم وجود كيان حقيقي للأحزاب السياسية في الانتخابات الرئاسية لعام 2011 لانها ليست طرفا قويا في عمليات التشكيل فهي مجرد عامل ضغط تساعد بشكل غير مباشر علي اضعاف تيارات لصالح تيارات اخري. ويتجاذب السيد ياسين المدير الأسبق لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، طرف الحديث قائلاً: ليست هناك ديمقراطية بدون احزاب سياسية، واي محاولة لالغاء الاحزاب ضد الديمقراطية، موضحا انه لعقد ورقة للاصلاح السياسي في مصر فلابد من ورقة بديلة والمجتمع كله لا يوجد فيه هذا البديل، ففي أثناء الازمة الاقتصادية لم نجد لدينا رؤية استراتيجية نطلق منها نظرة المجتمع وتصوره نحو المستقبل، فامريكا مثلا اصدرت "مشروع عام 2025" قدمت فيه مناقشات مع الجمعيات التطوعية، واسرائيل لديها مشروع 2020 وفيه تصور اسرائيل للنظام عام 2020. ويضيف ان الانتقال من نظام سلطوي الي نظام ديمقراطي ليبرالي يحدث بمقومات شديدة، ولا يمكن فهم ما يدور في مصر بدون فهم ما يحدث في العالم، فالازمة المالية نفت وجود الدولة الاقتصادي وسقط هذا النموذج في امريكا والعالم، والسؤال المطروح الآن: ما السبيل الي الاصلاح الان؟ هل هو عودة الدولة للرقابة علي السوق مرة اخري حتي لا يتوحش؟ ويشير د.عمرو هاشم ربيع خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، الي ان مصادر ضعف الاحزاب السياسية تبدأ من نشأة الاحزاب وتحولها من تنظيم غير حزبي الي تنظيم له الشرعية القانونية لتعميق المشاركة السياسية بشكل عام.. موضحا أن العمل الحزبي في مصر يوضع امامه قيود كثيرة، فقوانين الاحزاب السياسية في البلدان الديمقراطية تقول ان الشارع هو الحكم الرئيسي في انجاح الحزب، واغلب الاحزاب فيها ازمة تمويل لعدم استثمار اموالها في البنوك. ويقول: نحتاج الي مراجعة واعتماد مبدأ التغيير واتخاذ القرار، وكلها امور مستمرة في مصر منذ قانون الطوارئ الذي يعوق حرية العمل وكلها قيود تؤثر في حرية الاحزاب وعملها والتركيز علي عدم قيام الاحزاب باي نشاط خارجي، الامر الذي يرشد الاحزاب الي العمل السياسي وتجاهل اي نشاط اقتصادي او اجتماعي، وهذا التركيز سلب الاحزاب السياسية قوتها في الشارع نتيجة لتركيزها علي الاصلاح السياسي، فهناك ممارسة لاحباط الشباب وهناك أمور لا يمكن تعميمها، وكثيرا ما تفشل الائتلافات بين الاحزاب السياسية، ونجاح الحركات مرتبط بنجاحها في تسويق ذاتها واستخدام رسائل مؤثرة في طرح المشكلات، والحركات الاحتجاجية في غالبيتها تتجه نحو الاعتصام لتقديم مطالبها. وتقول د.هويدا عدلي الأستاذ بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية: ان ظاهرة الاحزاب السياسية في اوروبا ولدت في اطار دولة مدنية حديثة، ونحن في مصر لم نصل الي هذا المستوي علي مدار 50 عاما، ولدينا فجوة واسعة بين النخبة والناس والنخبة ليس لها دور في المجتمع وهي في مصر جزء كبير منها انتهازي، والحركات الاحتجاجية مرحلة تطورها مربوطة بشروط.. مشيرة الي ان جماعة الاخوان المسلمين بما لها من شعبية وجماهيرية وحراك سياسي ليست مجرد حركة احتجاجية ولكنها حزب سياسي له جماهيرية. ويشير حسين عبد الرازق الامين العام لحزب التجمع، الي ان بروز الحركات الاحتجاجية في مصر في الفترة الاخيرة مرتبط بالتغيرات التي حدثت نتيجة لالتزام الحكومة بتوجيهات صندوق النقد الدولي وهيئة المعونة الامريكية وتطبيق سياسة الخصخصة والتثبيت الهيكلي ودعم السلع والخدمات واطلاق العنان للقطاع الخاص الذي يسعي للربح.. مؤكدا ان تلك السياسة انتجت مجموعة من الظواهر ابرزها البطالة والفقر وارتفاع الاسعار وانخفاض مستوي معيشة الفرد، ووجود اختلاف في التوازنات الاجتماعية، وهو ما انتج صورة مختلفة من الاحتجاج واشكالا لحركات اجتماعية مثل اللجنة الشعبية المصرية لدعم الحركة الفلسطينية وحركة كفاية وادباء من اجل التغيير. ويوضح أن حركة "كفاية" من اكثر الحركات التي ركز عليها الاعلام ليؤكد فشل الاحزاب، لكنها استغلت بعض قادتها وقدمت علي انها حركة جماهيرية في الشارع تمارس التظاهر والوقفات بدون حواجز.